قديما انتبه المفكر والفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه إلى الكيفية التي يمكن بها تحويل الفن إلى ما يشبه الستائر الكارتونية أو البلاستيكية التي نضعها بجانب أعين الحمير والبغال لكي لا تشاهد وتفتن وتنشغل بما حولها وتنظر دوما في اتجاه وطريق من يمسك بلجامها ويتحكم في سيرها وهو قابع فوق سرجها.. نيتشه قال إن «هناك من يستعمل الفن لكي يجنبنا الموت بسبب الحقيقة».. تماما كتلك الحقيقة التي تجعل مهرجانا اسمه «أمواج» بآسفي ينصب منصته بجانب دور فقراء المدينة القديمة الذين يعيشون تحت بيوت أسقفها مدمرة لا ماء ولا كهرباء فيها، يتعشون على ما التقطته أيديهم من سردين نتن ملقى على أرصفة الميناء. خلال دورة السنة الماضية، كلفت منصة مهرجان «أمواج» لوحدها 60 مليونا من أموال المجالس المنتخبة التي تضخها في الحساب البنكي لجمعية المهرجان، التي تحولت حرفتها الوحيدة إلى متعهدة حفلات تعمل 3 أيام في السنة بقرابة 300 مليون سنتيم لا غير. وفي الوقت الذي كانت تنتهي فيه السهرات وتفرغ المنصة، كان بؤساء المدينة القديمة لآسفي يدخلون بيوتهم جياعا ليناموا ببطون فارغة وفي آذانهم ضجيج سهرات «الهيب هوب»، فيما الساهرون على المهرجان كانوا يقشرون فواكه البحر في الفنادق الفاخرة والفاتورة كان يدفعها أولئك البؤساء الجياع الذين كانوا يعتقدون، مساكين، أن لخماري يتبرع عليهم بمهرجان. الذين فكروا في اسم «أمواج» لإطلاقه على مهرجان في آسفي كانوا موفقين في اختيار تصورهم للفن الذي أرادوه أن يحمل إليهم بسهولة على ظهر الأمواج، بالرغم من أن البحارة يعرفون أن الموج لا يقذف سوى القنينات الفارغة والألواح الخشبية للقوارب الغارقة، وخلال فترات المد يتخلص البحر مما نسميه نحن «الكشكوشة» الصفراء التي يحملها بلا فاتورة أو فوائد بنكية، إلا أن الصورة التي اختيرت لدورة 2010 من مهرجان لخماري أظهرت تصورا آخر حينما وضعوا «فلوكة» على متنها آلات موسيقية قابعة ومتزاحمة في ما بينها كحيوانات سفينة نوح عليه السلام. هناك في الساحل الشمالي لآسفي معتقدات قوية عند أهالي سيدي بوزيد والشايف والدبرة وسيدي خليل بأن نوحا مر بسفينته من بحر آسفي، وأن آثار قدميه الضخمتين لازالت ظاهرة على صخرة توجد حتى الآن بالمنطقة يحتار المرء في تحديد طبيعتها.. نوح ملأ سفينته بأمر من الله لينجي البشرية من الطوفان، وكان بإمكانه أن يفعل كما يفعل أناس بيننا، أي أن ينظم مهرجانا ويجمع أموالا ويركب الكل على ظهر سفينته لينجيهم، تماما كما يصورون لنا اليوم مهرجان «أمواج» الذي يأتي كل سنة على ظهر «فلوكة» ليخلص آسفي من طوفانها في 3 أيام.. مع أن الحقيقة هي أنه يضع لأهالي آسفي «البوماضة» على الأعين حتى لا يدركوا أنهم يدفعون ثمن وجبات «اللونغوست» التي يأكلها أصحاب المهرجان في لياليهم الثلاث بالمدينة. خلال الستينيات، كان بحارة آسفي، بعد أن يرسوا قواربهم بالمرسى، يتجهون نحو بيت سيدة كانت تدعى بنت البعوا.. وفي ذلك الوقت من زمن الأبيض والأسود، كانوا يحتفلون عندها بما جادت به الشباك، على طريقتهم. وخلال خروج «الفلوكة»، كانوا ينشدون أغاني البحارة بلا داعٍ إلى مهرجان ولا إلى فواتير.. اليوم وحدها جمعية نور الدين لخماري من استطاعت في المغرب أن تحصل على مقر ليس سوى المكتب الشخصي لعامل آسفي في بناية رسمية لوزارة الداخلية.. تستعمل هاتف الدولة والفاكس والصالون الفخم، وحتى كؤوس الشاي يملؤها لهم «شاوش» فقير مغلوب على أمره.. إلا أن آسفي هي «الشاوش» الكبير، إذ يأكلون غلتها في 3 أيام حتى يملؤوا منها بطونهم العام كله.