قبل يومين، تحدثت الأوساط المالية والبنكية عن عجز سجلته الميزانية العامة يقدر بحوالي 12،5 مليار درهم. بعد ذلك بيومين، صدر تقرير عن المندوبية السامية للتخطيط يتحدث عن نمو الاقتصاد المغربي بنسبة أربعة في المائة في الربع الأول من 2010. الخبر الثالث يتعلق باعتزام الدولة بيع ثمانية في المائة من حصتها في «اتصالات المغرب» بثمن قد يصل إلى 12 مليار درهم، هو المبلغ نفسه الذي أعلن مزوار، وزير المالية، عن حاجة الدولة إليه لسد العجز الذي سجلته موازنة الدولة. وبالأمس فقط، وافق البنك الإفريقي للتنمية على منح المغرب قرضا بقيمة 100 مليون أورو لدعم برامج إصلاح حكومية في المملكة. ويهدف هذا القرض، حسب بلاغ للبنك الإفريقي، إلى تحسين كفاءة الإدارة الحكومية وإدارة الموارد البشرية وتعزيز قواعد الأجور. بمعنى أن القرض سيضيف المزيد من الشحوم إلى كتلة الأجور ونفقات المؤسسات العمومية. فيبدو أن عباس الفاسي وصهره نزار بركة يعملان بمنطوق البيت الشعري القائل «وداوني بالتي كانت هي الداء». هناك اليوم في المغرب أزمة سيولة حقيقية. ولا أحد في الحكومة أو في بنك المغرب أو في خلية الأزمة التي تشرف عليها وزارة المالية تجرأ وجاء إلى وسائل الإعلام لكي يصارح المغاربة بأن الأزمة التي طالما تغنوا ببعدها عنهم أصبحت تطرق أبواب المغرب. فيبدو أن هؤلاء جميعهم ابتلعوا القرص المخدر الذي أعطاهم إياه «دومينيك ستروسكان»، مدير صندوق النقد الدولي، عندما قال لهم مغازلا إن الاقتصاد المغربي يعتبر نموذجا في مقاومة الأزمة الاقتصادية العالمية. هذا هو الكلام المعسول نفسه الذي كان مسؤولو صندوق النقد الدولي يرددونه على مسامع المغرب بداية السبعينيات عندما شهدت أسعار الفوسفاط ارتفاعا قياسيا، فبدأ المغرب يبني قصور الرمال بناء على هذه الأرقام الاستثنائية. حتى عندما جاءت سنة 1973 ونزلت أسعار الفوسفاط، أصيب الاقتصاد المغربي بنكسة شديدة وتدخل صندوق النقد الدولي وفرض على المغرب سياسة التقويم المالي. وهو التقويم الذي عانى المغرب لسنوات طويلة من شروطه المجحفة التي كبلت اقتصاده وتركته رهينة في أيدي الخبراء الدوليين ونصائحهم. واليوم يريد خبراء وزارة المالية أن يمارسوا على المغاربة نفس جلسات التخدير والتنويم المغناطيسي لكي يناموا في العسل، وينكروا وجود أزمة عصيبة تشد خناق الاقتصاد الوطني. إن الشجاعة السياسية في المرحلة الدقيقة التي يمر منها الاقتصاد الوطني تقتضي إجراء تعديل حكومي عاجل يبدأ بتغيير الوزير الأول عباس الفاسي بوزير أول قادر على العمل وعلى مواكبة الإيقاع السريع الذي يسير به الملك. فمن جهة، هناك السرعة والفعالية والتحرك اليومي للملك الذي حول أجزاء واسعة من المملكة إلى ورش مفتوح، في مقابل تكاسل وتراخٍ حكومي وغياب كلي عن تقديم الحساب أمام البرلمان. وإذا كان الرئيس الفرنسي قد قرر قبل أسبوع إلغاء احتفالات في قصر الإليزيه بمناسبة يوم وطني بسبب الأزمة المالية، فإن الحكومة المغربية مطالبة باتخاذ إجراءات صارمة لتقليص نفقاتها العمومية التي تمتص بكتلة أجورها الجزء الأكبر من ميزانية الدولة. وأول قرار يجب أن يقوم به الوزير الأول المقبل هو تقليص عدد الوزارات إلى النصف، فالمغرب لم تعد له الإمكانيات المادية للإنفاق على 32 وزيرا، أغلبهم لا يعرف المغاربة حتى أسماءهم. هناك وزارات يمكن دمجها في بعضها البعض كما يحدث في فرنسا، مثلا. فوزارة الصحة مكانها مع وزارة الرياضة والشباب، ووزارة الثقافة والصناعة التقليدية مكاناهما مع وزارة السياحة، ووزارة الاتصال، التي تستعد لصرف ملياري سنتيم على تجديد بنايتها، يمكن أن تتحول إلى مجرد مديرية تابعة للوزارة الأولى. يمكن، بعملية جراحية مستعجلة ودقيقة، تخليص مؤسسات الدولة من نصف وزنها الزائد. وبدون هذه العملية المستعجلة، سيصاب القلب بالتضخم وسنعود مجددا لسماع أسطوانة السكتة القلبية، مع فارق بسيط هو أن سكتة الأمس كانت سياسية بينما سكتة اليوم اقتصادية بالأساس. إنه لم يعد مقبولا اليوم أن يشتري أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، قبل شهر سيارة جديدة، آخر صيحة، بمبلغ 130 مليون سنتيم، رغم أن الوزارة اشترت له سيارة فارهة لازالت صالحة للاستعمال. كما أنه اليوم لم يعد مقبولا أن يشتري مدير مؤسسة عمومية، كالمركز السينمائي المغربي، لنفسه سيارة جديدة بمبلغ 73 مليون سنتيم، رغم أن سيارة ال«بي.إم.دوبلفي»، التي اشتراها عند تعيينه بعد رفضه استعمال السيارة التي كان يستعملها سلفه سهيل بنبركة، لازالت صالحة. إنه لمن المخجل اليوم في هذه الظروف الاقتصادية الاستثنائية التي يعيشها المغرب أن يتحول وزير الثقافة الاتحادي بنسالم حميش إلى ابن بطوطة العهد الجديد على حساب ميزانية الدولة. فالرجل، منذ تعيينه وزيرا للثقافة، لا يكاد يجلس في مكتبه أسبوعا واحدا دون أن يأخذ إحدى كاتباته ويسافر إلى مكان ما من العالم. وخلال الشهر الذي ودعناه، سافر سعادة الوزير إلى نيويورك. وعندما عاد، لم يكلف نفسه فك حقائبه لأنه سيسافر إلى الصين. وبمجرد ما عاد، ذهب إلى إسبانيا. ولازالت أجندة سعادة الوزير متزاحمة بالأسفار نحو الأمصار البعيدة التي لم يكتشفها عندما كان أستاذا فقرر أن يكتشفها وهو وزير على حساب أموال دافعي الضرائب. ولا يتفوق على بنسالم حميش في الأسفار والرحلات سوى وزير الهجرة الاتحادي محمد عامر الذي لم يترك قارة منذ توليه حقيبة الهجرة إلا وزارها. وأحيانا، يزور بلدانا لا يوجد فيها سوى بضع مئات من المغاربة، ولا توجد فيها حتى قنصلية مغربية. وإذا كان الوزير الاتحادي بنسالم حميش لا يفوت أية مناسبة لكي يستغل منصبه في «الراحة والسياحة»، فإن رفيقه في الحزب ووزير التعليم السابق، الحبيب المالكي، قرر أن يستفيد من تقاعده الوزاري بعد أن يئس من العودة إلى الحكومة. وقد تدخل عباس الفاسي شخصيا للوزير السابق الحبيب المالكي لكي يحصل على تقاعده الوزاري، والذي حددته له خزينة المملكة في ألفي درهم. فقد جمع محاسبو المالية وضربوا كل الرواتب والتعويضات التي يتقاضها الحبيب، فوجدوا أن ما ينقصه لكي يحصل على راتب أربعين ألف درهم التي تصرفها الدولة كتقاعد للوزراء هو مبلغ 2000 درهم لا غير. وقد تسلمه سعادة الوزير السابق عملا بحكمة «عضة من الفكرون ولا يمشي فالت». والواقع أن لا أحد يفهم لماذا على دافعي الضرائب المغاربة أن يتحملوا مصاريف تقاعد الوزراء مدى الحياة والذين لم يقض بعضهم في الحكومة أكثر من سنة. في الدول الديمقراطية، عندما يغادر الوزير الحكومة فإنه يعود إلى عمله الأصلي في الجامعة أو المحاماة أو الطب أو المهن الحرة. بمعنى أنه لكي يعيش يجب عليه أن يشتغل مثل الآخرين، لا أن يتوصل براتب أربعين ألف درهم في الشهر ويقضي وقته في إعطاء التصريحات النارية مثلما يصنع الأشعري اليوم مطالبا زملاءه في الحزب بمغادرة الحكومة لأن اللعبة مغشوشة. إذا كانت اللعبة مغشوشة يا سعادة الشاعر فلماذا لا ترد مصاريف هذه اللعبة إلى خزينة الدولة. لماذا تستمرون أنتم ورفاقكم في الحزب في أكل الغلة وسب الملة؟ امتنعوا عن التوصل برواتب هذه اللعبة المغشوشة التي شاركتم فيها طيلة عشر سنوات، حتى نصدقكم. في فرنسا، عندما أعلن «فرانسوا فيون» أن الدولة الفرنسية توجد على حافة الإفلاس، اشتعلت جميع الأضواء الحمراء وبدأت الحكومة تبحث عن كل الثقوب المالية لسدها، وشنت الصحافة الفرنسية حملة شرسة على الموظفين العموميين المبذرين ونعتتهم بأقذع النعوت. عندنا في المغرب، اشتغل قضاة المجلس الأعلى للحسابات طيلة سنة على مئات المؤسسات العمومية، ووقفوا على اختلاسات واختلالات مالية، ومع ذلك لا أحد امتلك الجرأة على إعادة ملايير الدولة المنهوبة من هؤلاء الموظفين العموميين. لا الميداوي يريد ولا وزير العدل يريد. وكل واحد يرمي الكرة نحو الآخر. ولأن ناهبي المال العام لا يحاكمون في المغرب، فقد انضاف إلى صف الميداوي ووزير العدل شخص ثالث هو وزير المالية، والذي طمأن في البرلمان مدراء المؤسسات العمومية التي شملتها تحقيقات المفتشية العامة للمالية في البرلمان بأن المتابعة في حقهم من طرف وزارة المالية ليست واردة في الوقت الراهن. فقد سأله أحد النواب البرلمانيين الاستقلاليين عن أسباب عزوفه عن نشر مضامين هذا التقرير، فلم ير سعادة الوزير ضرورة لتقديم أي جواب. وطبعا، فالصمت علامة الرضى. الرضى على ما يحدث من تبذير ونهب داخل المؤسسات التي تتحمل وزارة المالية عبر المفتشية العامة التابعة لها مسؤولية مراقبتها ومحاسبتها. وعوض أن يلجأ المغرب إلى الاقتراض من البنوك الخارجية، أليس أجدى وأحسن له أن يسعى إلى استعادة ملاييره المنهوبة في المؤسسات العمومية، والتي يملك تقارير مفصلة عن أسماء المتهمين بتبديدها. إننا لا نطالب بمحاكمة واعتقال هؤلاء المبذرين، بل نطالبهم فقط بأن يستحضروا اللحظة الحرجة التي يمر منها اقتصاد البلاد، وأن يعيدوا الأموال التي بددوها إلى حزينة الدولة. «الله يخلصكم فالشي لاخر».