اكتشف العالم، بعد هزيمة المنتخب الفرنسي، الوجه الآخر للشخصية الفرنسية المتعالية والرافضة للهزيمة. وعندما رفض المدرب الفرنسي مصافحة مدرب منتخب جنوب إفريقيا، علما بأن جنوب إفريقيا هي البلد المنظم للمونديال، يكون قد أعطى عن نفسه وبلاده صورة المهزوم السيئ، أو ما يسمونه بالفرنسية un mauvais perdant، ذلك الخصم الذي يرفض الفشل حتى ولو كان يستحقه. عادة إعطاء الدروس واحتراف لعب دور المعلم والقدوة عادة فرنسية بامتياز. وحتى عندما تعاني فرنسا من مرض ما، فإن بعض أبنائها يتطوعون لإعطاء وصفات العلاج للدول التي يعتبرونها تحت وصايتهم، متناسين أنهم أولى بالاستفادة من مواهبهم الطبية. هكذا فكرت وأنا أقرأ مقال الصحافية «إزابيل ماندرو»، التي كتبت حول ما تراءى لها من «ظلال تخيم على العلاقات بين الصحافة والسلطة في المغرب». وبغض النظر عن الاستنتاج السخيف الذي توصلت إليه الصحافية الفرنسية عندما جعلت من أحمد بنشمسي ومجلتيه آخر حصن للصحافة المستقلة في المغرب، فإن المقال يكشف عن جهل كاتبته المريع بالواقع الصحافي المغربي وكواليسه والمصالح التي تشتغل كل جهة إعلامية على حمايتها أو الحديث باسمها. لسنا بحاجة إلى شرح مدى عمق ومتانة الروابط التي تجمع بين صاحب مجموعة «تيل كيل» وجريدة «لوموند» الفرنسية، فالجميع اكتشف هذه الروابط عندما تهب الجريدة الفرنسية للدفاع عن ممثلها في المغرب كلما وقف أمام القضاء. والجميع رأى كيف أن بنشمسي هو الصحافي الوحيد في المغرب الذي أصدرت وزارة الخارجية الفرنسية بيانا للتضامن معه، مع أنه ليس مواطنا فرنسيا ولا يتحمل أية مسؤولية دبلوماسية. لكن، بالمقابل، هناك اليوم حاجة ماسة إلى معرفة بعض الحقائق حول الجريدة الفرنسية العريقة التي كتبت فيها هذه الصحافية الفرنسية حول «الظلال التي تخيم على العلاقات بين الصحافة والسلطة في المغرب»، وكيف أن المغرب يتجه نحو تقليد النموذج التونسي في التعامل مع الصحافة المستقلة. فالظاهر أن الظلال الحقيقية التي تخيم على الصحافة والسلطة توجد في قصر الإليزيه بباريس، والظاهر أيضا أن ما أصبح يغري الرئيس ساركوزي ليس فقط هو النموذج التونسي، وإنما نموذج جمهوريات الموز. ويكفي لفهم ذلك تأمل الظلال التي تغطي صفقة فتح رأسمال جريدة «لوموند»، التي كانت فيما مضى الجريدة الأولى المملوكة من طرف صحافيين، فاضطرت بسبب الأزمة المالية وتراجع المبيعات والمعلنين إلى فتح رأسمالها لدخول الشركات الكبرى. الأخت «إيزابيل» التي ترثي لحال بنسمشي، قلعة الصحافة المستقلة الأخيرة بالمغرب، وتقرع جرس الإنذار بسبب المصاعب المالية التي تتعرض لها مؤسسته، تعرف جيدا أنها لن تتوصل في فرنسا براتبها عن شهر يوليوز إذا لم تمر صفقة بيع جزء من رأسمال جريدة «لوموند» إلى مجموعتين ماليتين كبيرتين. فالجريدة الفرنسية بحاجة إلى الكثير من المال، وتحديدا إلى حوالي 100 مليون أورو حتى لا تنتهي «لوموند» في التصفية المالية. ماذا حدث، إذن، حتى تحولت جريدة «لوموند»، التي تعودت شد آذان زعماء ورؤساء الدول الإفريقية التي تعتبر فرنسا بقاءها تحت حمايتها أمرا حتميا، من بعبع مخيف إلى مجرد جريدة في المزاد العلني. إنها الأزمة. المشكلة أن أزمة «لوموند» ليست مالية فقط، وإنما أخلاقية أيضا. فقد استدعى الرئيس ساركوزي شخصيا مدير «لوموند» إريك فتورينو لكي يخبره بأنه يعترض على بيع أسهم «لوموند» لرجل الأعمال «كسافي نييل»، مالك شركة اتصالات. بأي حق يستدعي رئيس الجمهورية مدير جريدة مستقلة لكي يطلب منه إقصاء رجل أعمال من دخول رأسمال الشركة الناشرة للجريدة، فقط لأن رئيس الجمهورية غير مرتاح للتوجهات اليسارية للرجل. والمصيبة أن الرئيس لم يكتف باختيار من سيشتري أسهم جريدة «لوموند»، بل إنه وصل مع مدير الجريدة إلى التهديد، فقال له إنه إذا لم يتخذ قرارا حكيما، أي قرار الرئيس، فإن الاستثمارات العمومية التي تمنحها الدولة لمطبعة الجريدة ستذهب مع الريح. هذا ما يسمونه في اللغة الفرنسية «الشونطاج»، أي ما يسمونه عندنا «هادي بهاديك». في دولة ديمقراطية كفرنسا لديها صحافة تقول عن نفسها إنها مستقلة، كان الجميع ينتظر أن يثور صحافيو «لوموند» ضد هذا التدخل الرئاسي في أمور شركتهم الداخلية. لكن شيئا من هذا لم يحدث. الذي حدث هو أن إدارة «لوموند» أرسلت صحافية، لا تعرف شيئا عن المغرب ولا عن صحافته، لكي تكتب مقالا سطحيا يتحدث عن «الظلال التي تخيم على العلاقات بين الصحافة والسلطة». والحال أن الظلال التي ينتظر الجميع في فرنسا وخارجها أن يأتي من يوضحها قليلا هي تلك الظلال الكثيفة التي تخيم على علاقة «لوموند» بقصر الإليزيه، وكيف يتحكم الرئيس ساركوزي وحاشيته في هندسة رأسمال الجريدة الأكثر عراقة وإشعاعا في فرنسا وخارجها. الجميع يعرف أن «لوموند» ليست مجرد جريدة. إنها مؤسسة للتأثير والإشعاع داخل فرنسا وأيضا عبر العالم. جريدة امتلكها دائما صحافيوها، مما ضمن لها نوعا من الاستقلالية المالية. لكن هذا لا يعني أن الجريدة كانت دائما مستقلة سياسيا، فمواقفها السياسية من بعض الأنظمة خاضعة بشكل غامض للأجندة الحكومية. ولعل ما يحسب لجريدة «لوموند» هو كونها تدافع عن المصالح الفرنسية عبر العالم. وإذا كان الرئيس ساركوزي يسعى إلى التحكم في اختيار المساهمين الجدد الذين سيدخلون رأسمالها، فلأنه يدرك جيدا خطورة هذه الجريدة وأهميتها كماكينة حرب إعلامية يحتاجها إلى جانبه عوض أن تكون في مواجهته. عندما تتحدث الصحافة الفرنسية عن علاقة الإعلام في المغرب بالسلطة وتكتب أن السلطة تضع بعض الجرائد والمجلات ضمن القوائم السوداء من أجل حرمانها من الإعلانات، فإنها تنسى أن الرئيس ساركوزي لم يكتف فقط بتهديد مدير «لوموند» بوقف الإعانات العمومية عن مطبعته، وإنما ذهب إلى حد وضع رجل الأعمال «إريك فتورينو»، الذي فكر في اقتناء «لوموند»، ضمن قائمة سوداء بتهمة الاغتناء المشبوه. فقد أصبح واضحا أن الرئيس الفرنسي يريد حرمان «إريك فتورينو» من أسهم «لوموند» لكي يفسح المجال أمام الثلاثي «بيرجي» و«نييل» و«بيغاس». ولعل ما يجمع بين الثلاثة هو كونهم جميعا فرنسيين يهودا يشتركون مع ساركوزي في تصوراته ورؤاه المتطرفة للنزاع في الشرق الأوسط ومواقفه المتعصبة تجاه الإسلام والمهاجرين. ها نحن، إذن، نرى كيف أن الجريدة، التي تعطي الدروس للآخرين في الاستقلالية والحرية، أصبحت عاجزة، بسبب حاجتها الملحة إلى المال، عن اتخاذ قراراتها بمعزل عن التأثير المباشر لساكن قصر الإليزيه. ومع ذلك، تمتلك «لوموند» الجرأة لكي تعطي الدروس للآخرين وتنتقد عدم استقلالية الإعلام في تونس والمغرب والجزائر وبقية الدول التي تعتبرها فرنسا مجبرة على البقاء تحت حمايتها اللغوية والاقتصادية إلى أبد الآبدين. إنهم ليسوا أغبياء هؤلاء الفرنسيون، فهم يدافعون عن «رجالهم» في الإعلام عندنا لأن هؤلاء يخدمون مصالح فرنسا بالأساس، فقد ساندوا المزعج توفيق بنبريك لسنوات طويلة فقط لكي يلووا ذراع بنعلي اقتصاديا. وعندما خرج أخيرا بنبريك من السجن بعد حادثة سير تسبب فيها لمواطن في جروح، أعلن أن كل طموحه هو أن يصبح رئيسا للجمهورية التونسية. فهموا أن الرجل يهذي، فأخرجوا له في فرنسا قضية اعتداء على مواطنة في أحد المطارات كانت المخابرات الفرنسية قد حفظتها طيلة سنوات في أدراج محاكمها. إن الصراع الإعلامي الحقيقي الذي تدور اليوم رحاه في المغرب، وفات الصحافية الفرنسية التقاط شظاياه، هو ذلك الصراع المفتوح بين صحافة مستقلة ووطنية تدافع عن حق القارئ في معرفة المعلومة، دون أن تكون مجندة لخدمة أية أجندة أجنبية أو محلية، وبين صحافة مستلبة خاضعة بالكامل لأسيادها الذين يدفعون لها مصاريفها، تشتغل لصالح «لوبيات» خفية وظاهرة هدفها الأول والأخير إيصال المغرب إلى حافة الانشقاق والميوعة الأخلاقية والفتنة اللغوية والعرقية والدينية. وقبل هذا وبعده، فالدرس العميق الذي تقدمه «حالة» جريدة «لوموند» هو أن الاستقلالية الحقيقية لأية جريدة أو مجلة هي الاستقلالية المالية. إذا قال لكم مدراء مؤسسات إعلامية في المغرب إن مؤسساتهم مستقلة، فاطلبوا منهم أن يكشفوا لكم عن مصادر تمويل مؤسساتهم. كم يطبعون وكم يبيعون وما هي أرباحهم؟ وإذا لم تكن لديهم مبيعات، فإنه من المنطقي ألا تكون لديهم إعلانات. وإذا لم تكن لديهم مبيعات ولا إعلانات فليشرحوا لكم من أين يأتون بالمال الكافي لدفع رواتب صحافييهم وموظفيهم وتكاليف الطبع والتوزيع والضرائب. إذا أجابوكم عن هذا السؤال «ها وجهي ها وجهكم».