لم يقرأ عبد القادر في حياته يوما سطرا من شعر بدر شاكر السياب الذي اعتبر اللحد أوسع من ذلك الشبر الذي نوضع فيه، ولا يعلم الكهل المنحدر من سباتة أن الشاعر العراقي قد أفرد له قصيدة عنونها بحفار القبور.. لا يجيد عبد القادر سوى عمل واحد: شق أديم الأرض التي ستحتضن جثة بلا روح، ملفوفة داخل كفن أبيض. «آش يدير الميت قدام غسالو»، يبتسم عبد القادر وهو يلخص ثلاثين سنة من عمله كحفار للقبور. مازال يتذكر أول قبر قام بحفره في حياته في مقبرة عين الشق وتلك الأحاسيس المتناقضة التي انتابته:«كان قبرا لفتى يبلغ من العمر 10 سنوات في أول يوم لي بالمقبرة. أحسست بالرهبة وأنا أنزل الجثة المسجاة في الكفن في باطن الحفرة، ارتعشت يداي بشدة وأنا أتحسس الجسد الجامد وأقرأ بخشوع آيات قرآنية، اختلطت علي من هول الموقف». أكثر ما يحزنه هو نظرة أقاربه وجيرانه إلى مهنته، إذ نظرة الشؤم التي يواجهه بها الآخرون دفعته إلى الانطواء على ذاته والعيش بدون أصدقاء.. «لم أستطع تحمل حفر قبر لوالدتي بعد وفاتها، طلبت من حفار يعمل معي أن يقوم بتلك المهمة. أزور قبرها وأرش عليه ماء الورد..». الفأس لا تفارقه في انتظار الشروع في شق الحفر التي قد تبلغ 50 حفرة في اليوم، يتم إعدادها تحسبا لاستقبال الموتى الذين يتجاوز عددهم يوميا 20 متوفى.. لا يفضل هذا العامل مباشرة عمله في مقبرة لا تستطيع استقبال ضيوفها، حيث وجد نفسه مجبرا ذات يوم على نبش قبرين منسيين من أجل دفن جثة سيدة وزوجها توفيا نتيجة حادثة سير. وإذا كانت أعراف الدفن بالمغرب لا تحدد شروط إعادة استعمال القبر، فإن القبر غير المبني بالجزائر إذا مرت عليه خمس سنوات ولم يفتح، فمن الجائز قانونيا أن يعاد استغلاله والدفن به.. «من الصعب مشاهدة العظام الجافة ودفن ميت جديد آخر إلى جانبها. أقوم بذلك رغما عني خاصة عندما أجد نفسي مجبرا على ذلك». رهبة الأمس أصبحت اليوم طقسا يوميا لا يثير الخوف في نفس عبد القادر الذي وجد مصدر رزقه الوحيد في تشييع الراحلين إلى مثواهم الأخير، فهو يرى أن «لا اختلاف بين الغني والفقير في الموت، تنتهي الاعتبارات الاجتماعية ويصبح الجميع سواسية في القبر». لم تكن الكوابيس تفارقه خلال السنوات الخمس الأولى، واعترف بأنه زار أحد الفقهاء بحي الشريفة الذي وصف له خلطة شعبية أنهت أرق الليالي التي لم يغمض له فيها جفن. مهنة حفار، رغم حمولتها الثقافية والدينية، تتطلب الدقة في التعامل مع الأرقام:«شبر وأربعة أصابع في عرض الحفرة ومتر وعشرون سنتمترا في عمقها، إنها مقاييس لا يجب التعامل معها باستخفاف». يبدو عبد القادر، الذي لم ينه تعليمه الإعدادي، محظوظا لأنه يتوفر على الضمان الاجتماعي وأجرة شهرية قارة لدى شركة الدفن التي يعمل بها:«أحصل على 1700 درهم شهريا ولدي تأمين صحي. المهم أنني أعيل أسرتي وأكسب أجرا عند الله». صادف خلال العشر سنوات التي عمل بها حفارا في مقبرة عين الشق حالات لنبش بعض القبور، لكنه، بالمقابل، لم يشهد في حياته حادثة عودة ميت إلى الحياة:«رغم الحراسة الليلية، يتمكن البعض من إخراج الجثث للحصول على العظام أو أحد الأعضاء واستخدامها في طقوس الشعوذة والمتاجرة فيها».