يقف السيد نوري المالكي، رئيس وزراء العراق الجديد الذي يزور طهران حاليا، أمام استحقاقات ربما تكون الأصعب منذ توليه السلطة، تتمثل في محاولته اليائسة لإرضاء إيران دون أن يخسر الولاياتالمتحدةالأمريكية في الوقت نفسه. فالخناق بدأ يضيق عليه وحلفائه، مع تزايد الضغوط الأمريكية لاعتماد الاتفاقية الأمنية التي تعارضها إيران، ومعظم الفصائل والأحزاب الشيعية البارزة في العراق، لأنها تضع البلاد تحت انتداب أمريكي يمتد إلى عقود إن لم يكن إلى قرون قادمة. ولا بد من الاعتراف بأن السيد المالكي أجاد لعبة المناورة وكسب الوقت بشكل بارع، وأثبت قدرة خارقة على البقاء في بلد تعصف به المشاكل والأزمات من كل ناحية، حيث حول ضعفه، وانفضاض الكثيرين من حوله، إلى أحد أبرز نقاط قوته، ودون أن يحقق أي إنجازات على الأرض، خاصة المصالحة الوطنية، ودفع مسيرة الإعمار، وتوفير أبسط الخدمات الأساسية للمواطن العراقي وعلى رأسها الأمن، قوته ببساطة شديدة تكمن في انعدام البدائل. مساحة المناورة بدأت تنكمش، وبات الرجل عاجزا عن اللعب على حبال التناقضات الداخلية العراقية، أو الإقليمية الأوسع نطاقا، وبات عليه أن يختار بين إيران حليفه القديم، وداعمه الأساسي، أو الولاياتالمتحدة الحليف الجديد الذي سهل وصوله إلى سدة الحكم. إرضاء الولاياتالمتحدة، يعني القبول بقواعد أمريكية عسكرية دائمة (50 قاعدة) وتسليم ثروات البلاد النفطية بالكامل للشركات الأمريكية العملاقة، وتمتع حوالي 150 ألف جندي أمريكي ومعهم نصف هذا الرقم من موظفي الشركات الأمنية بالحصانة الكاملة تجاه أي ملاحقات قضائية عراقية، وسيطرة سلطة الانتداب الأمريكي الجديد على أجواء العراق ومياهه الإقليمية بالكامل. ومن المفارقة أن الجهة الوحيدة التي لا تعارض الاتفاقية الأمنية الأمريكية هي جبهة التوافق العراقية السنية، لأنها ترى فيها ضمانة للتصدي لما تسميه بالأطماع الإيرانية في العراق، بينما ترفضها جميع الفصائل والأحزاب الشيعية علاوة على فصائل المقاومة الوطنية وهيئة علماء المسلمين، لأنها تمثل في رأيها انتقاصا فاضحا للسيادة العراقية. ورغم سوء الاتفاقية الأمنية فإن لها إيجابية واحدة تتمثل في كونها فضحت جميع الأطراف المنخرطة في العملية السياسية المنبثقة عن الاحتلال الأمريكي، فقد أظهرت انتهازية جبهة التوافق السنية والمنخرطين فيها، خاصة الحزب الإسلامي، مثلما كشفت نفاق معظم الأحزاب والفصائل الشيعية الأخرى، باستثناء التيار الصدري، علاوة على سذاجتها السياسية. فهذه الفصائل والأحزاب التي تتباكى على السيادة العراقية حاليا، نسيت، أو تناست، أنها هي التي كانت حصان طروادة لاحتلال العراق وإيصاله إلى الوضع البائس الذي يعيشه حاليا. فالإدارة الأمريكية الحالية لم ترسل ربع مليون جندي إلى العراق من أجل عيون الشعب العراقي، ولإحلال الديمقراطية وحفظ حقوق الإنسان، فالولاياتالمتحدة لم تكن أبدا في تاريخها الحديث مؤسسة خيرية، وإنما دولة عظمى تضع مصالحها الاستراتيجية، والاقتصادية منها على وجه الخصوص، فوق أي اعتبار آخر. فألان غريسبان وزير الخزانة الأمريكي لأكثر من عشر سنوات لم يكن مجافيا للحقيقة عندما قال إن نفط العراق، والهيمنة عليه كان من العوامل الرئيسية لشن الحرب على هذا البلد، وسكوت ماكليلان الناطق باسم البيت الأبيض لأكثر من ثلاث سنوات، لم يبالغ عندما قال في كتابه الأحدث إن إدارة الرئيس بوش استخدمت كل وسائل الخداع والكذب للتغطية على أهدافها الحقيقية لغزو العراق واحتلاله. الإدارة الأمريكية استثمرت أكثر من ستمائة مليار دولار حتى الآن في العراق، وخسرت حوالي أربعة آلاف من جنودها، علاوة على إصابة ثلاثين ألفا آخرين، وهي قدمت كل هذه التضحيات من أجل السيطرة على هذا البلد، والبقاء فيه لعقود قادمة، حيث احتياطات نفطية تصل إلى 350 مليار برميل، أي ضعف الاحتياطات النفطية السعودية التي تعتبر الأضخم في العالم بأسره. ونستطيع أن نعرف مدى أهمية هذه الاحتياطات مع توقع وصول سعر برميل النفط إلى 150 دولارا الشهر المقبل. ومن غير المنطقي أن يتصور السيد المالكي وحلفاؤه، خاصة المجلس الإسلامي الأعلى بزعامة السيد عبد العزيز الحكيم، أنه يستطيع أن يتحالف مع طهران ضد المحتل الأمريكي أو العكس، ويبقى في سدة الحكم. فإما أن يعود إلى الحضن الإيراني، وينخرط في المعسكر المقاوم للاتفاقية الأمنية، أو يفي بوعوده للذين أتوا به من المنفى على ظهور دباباتهم، ويتحول إلى أنطوان لحد عراقي. فالجمع بين الأمريكان والإيرانيين مثل من يحاول الخلط بين الزيت والماء، أو بالأحرى البنزين والكبريت في إناء واحد. السيد المالكي يعيش حالة من الفانتازيا لا يعرف كيف يخرج منها، فقد كان لافتا تصريحه الذي أدلى به في طهران، وقال فيه إنه لن يسمح باستخدام العراق قاعدة لضرب إيران، مشيرا بشكل مباشر إلى ما يتردد عن خطط أمريكية في هذا الخصوص. فمثل هذا التصريح يبدو مفهوما لو أن الرجل سيد في بلاده، ويتمتع بالاستقلال الكامل، ويستند إلى جيوش جرارة، وأسلحة برية وجوية هي الأحدث، ولكنه لا يستطيع أن يبقى في الحكم يوما واحدا إذا غضب عليه السيد الأمريكي، بل ربما لا يسمح له بالعودة إلى المنطقة الخضراء التي لا يستطيع حمايتها، أو حتى مغادرتها (بالأمس سقطت القذائف في فناء وزارة الدفاع العراقية فيها وقتلت وأصابت عدة أشخاص). القاسم المشترك بين السيد المالكي وحلفائه الأمريكيين أن الطرفين باتت أيامهما معدودة في العراق، اللهم إلا إذا حدثت معجزة، ونحن لسنا في زمن المعجزات لسوء حظهما. فمن الواضح أن الحلفاء ينفضون من حولهما، فالإدارة الأمريكية التي استخدمت الورقة الطائفية لتكريس احتلالها، باتت تدفع ثمنا باهظا لهذه المغامرة، فالطائفة الشيعية بدأت تتبادل الأدوار مع المثلث السني سابقا (تفكيك إلى قوات صحوة وقوات صحوة ضد الصحوة، وضلع ثالث مازال يقاوم ويقبض على الجمر)، وتنتقل إلى خندق المقاومة تدريجيا، ودون أن تتخلى المقاومة السنية عن عدائها للاحتلال الأمريكي أساسا. أما السيد المالكي فقد هجره أقرب حلفائه، السيد إبراهيم الجعفري، الذي انشق بالقسم الأكبر من حزب الدعوة، وانضم إلى المعارضة. ومن هنا فإننا نرى أن محاولة بعض الدول العربية، والخليجية منها على وجه الخصوص، إعادة فتح سفاراتها، وتعيين سفراء في بغداد، استجابة لضغوط أمريكية، تبدو خطوة متسرعة، وتصب في خدمة حكومة تعيش في غرفة العناية المركزة، انتظارا لرصاصة الرحمة. ونخشى أن ينطبق على هؤلاء المثل الشعبي الذي يقول يذهب إلى الحج والناس راجعة.