كان الشاعر الإنجليزي ت.س.إليوت يقول إنه «ليس من الحكمة أن ندعو إلى التخلي عن شيء لا نعرفه»، ردا على من يريدون تحرير القصيدة من الأوزان، فقط لأنهم لا يتقنون الكتابة بالإيقاع الكلاسيكي. عندما يدعوك شخص إلى التخلي عن شيء لا يستطيع الوصول إليه، من الصعب أن تثق في دعوته، لأنه مثل القط الذي يقول عن قطعة اللحم «خانزة»، فقط لأنها ليست في متناول أنيابه، كما في المثل المغربي الشهير. لذلك أعتقد أن أنسب رد على من يدعون إلى تبني الدارجة بدل الفصحى في الندوات والجرائد، هذه الأيام، هو إدخالهم إلى أحد الفصول الدراسية مع تلاميذ الخامس ابتدائي لاجتياز امتحان في مادة «الإملاء»، ومن حصل منهم على المعدل فقط، أي «5 على 10»، نعده بأن نأخذ كلامه على محمل الجد، ونحرق «لسان العرب» ودواوين المتنبي ومحمود درويش وروايات شكري وزفزاف وكتاب «النبوغ المغربي» لعبد الله كنون في الساحات العمومية.. وفي انتظار أن تنتج الدارجة مؤلفات جديرة بأن نضعها في مكتباتنا، نزين الرفوف بأسطوانات «البيك» وكتاب «الكود دولاروت»، أشهر ما ألفناه بالدارجة المغربية إلى حد الآن! لا أحد يجادل في أن القضية اللغوية في المغرب تحتاج إلى نقاش، لكن السؤال هو: من يتناقش؟ بدل أن نسمع عبد الله العروي وعبد القادر الفاسي الفهري وأحمد بوكوس وبقية اللسانيين والإثنو-لسانيين، خرج لنا رجل الإشهار والإعلامي وصاحب شركة التواصل ومول الراديو ومول الديسك ومول الحانوت.. نقاشات مضحكة، تفتقر إلى الحد الأدنى من المصداقية والنزاهة الفكرية، لأن 99 في المائة من المشاركين فيها أصحاب مصالح، آخر ما يهمهم هو المصير اللغوي والثقافي لهذه البلاد. «اللغة سلطة»، كما يقول رولان بارت، والنقاش اللغوي في المغرب، كما يطرحه المدافعون عن استبدال الفصحى بالدارجة، يخفي رهانا على السلطة. هناك في المغرب طبقة فرانكوفونية سيطرت على خيرات البلاد منذ الاستقلال، يخيفها النفوذ المتزايد للغة العربية الفصحى، داخل المغرب وخارجه. أشخاص بألسنة معقودة، لا يتقنون إلا الفرنسية والدارجة، يخشون أن يؤدي تصاعد النفوذ الإعلامي والاقتصادي للعربية إلى تهميشهم، لصالح جيل من المغاربة تخرجوا من المدارس العمومية، وكثير منهم يتقن بالإضافة إلى العربية لغة أو لغتين.. هذا هو بيت القصيد، «هنا فين عواجت الفكوسة». بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر والغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق، استثمر الأمريكيون وحلفاؤهم ملايير الدولارات كي يفهموا من أين خرج المارد الذي حوّل برجي التجارة العالمية إلى غبار، وبشكل غير مسبوق، ارتفعت أسهم العربية في كل عواصم العالم، ورأينا كيف تباهى بول بريمر بترديد أبيات من قصيدة ابن زريق البغدادي، حينما أنهى مهمته كحاكم للعراق، كما شهدنا كيف رصدت القوى العظمى استثمارات ضخمة كي تنشئ قنوات تتحدث بالعربية: الأمريكيون أنشؤوا «الحرة»، والفرنسيون «فرانس24»، والبريطانيون ال«بي.بي.سي»، والروس «روسيا اليوم»، والاتحاد الأوربي أضاف العربية إلى لغات «أورونيوز»... حتى الصين وتركيا، صارت لهما قنوات بالعربية، دون الحديث عن الرساميل الخليجية التي باتت أكثر عقلانية وتغزو أسواق العالم بالعربية الفصحى. تصاعد نفوذ العربية أصبح كابوسا يؤرق الطبقة الفرانكوفونية في المغرب، التي خرجت تدافع عن مصالحها في الآونة الأخيرة. ولو استطاعوا ل»خرْجو ليها نيشان» ودعوا إلى دسترة الفرنسية، لكنهم يعرفون أن المغاربة سيضربونهم بالماطيشة والبيض، لذلك يطالبون بدسترة الدارجة، كي يقضوا على العربية التي تهدد مصالحهم، ولا مشكلة إذا انغلق المغرب على نفسه وعاد إلى أيام مولاي سليمان وسياسة الاحتراز.. المهم مصالحهم. ملخص الحكاية أن هناك أشخاصا لا يفرقون بين الألف والزرواطة، عربيتهم ليست أفضل من عربية جدتي، يخافون على مصالحهم، لذلك يدعون إلى استبدال العربية بالدارجة، بدل دعوتهم أفضل دعوات جدتي بالرضى وألا يلتقي طريقي مع طريق أولاد الحرام.