حين كان العالم منشغلا بحفل افتتاح مونديال2010، كان وزيران من لمغرب وجنوب إفريقيا يبحثان في الرباط سبل تعزيز التعاون بين البلدين. ولسبب دبلوماسي، قد يكون وزير تحديث القطاعات العامة، محمد سعد العلمي، اختار الاجتماع مع وزير الخدمة المدنية والإدارة في جنوب إفريقيا ماسياني ريتشارد في مقر وزارة الخارجية، أو أن انعقاد مؤتمر المجلس الإداري الإفريقي «كافراد» حتم ذلك. لم تكن المباحثات لتثير الاهتمام لو أنها جرت بين دولتين ترتبطان بعلاقات طبيعية، خيالية من أسباب التوتر والقلق. لكنْ أن يحدث ذلك بين مسؤولين من المغرب وجنوب إفريقيا تحديدا، فالاجتماع تصبح له أكثر من أهمية، من جهة لأنه لا يمكن الحديث عن تعاون ثنائي بين بلدين تفرق بينهما مواقف سياسية شاسعة، ومن جهة ثانية، لأن جنوب إفريقيا عندما قررت الاعتراف بالكيان الوهمي لما يعرف ب«الجمهورية الصحراوية»حرمت نفسها من أي حوار مع المغرب، صاحب الحق المشروع في قضية الوحدة الترابية. لكن لقاء مثل هذا لا يمكن أن يلتئم عن طريق الصدفة، ولا شك أن الوزير القادم من جوهانسبورغ يدرك جيدا أن موقف المغرب إزاء هذه القضية، يكتسي طابعا مبدئيا غير قابل للتساهل أو التأويل. فهل يكون حمل رسالة سياسية خاصة، أم أنه التقى بنظيره المغربي للإيهام بأن العلاقات بين بلدي الشمال الإفريقي والجنوب الإفريقي عادية وطبيعية؟ على أي حال، فإن الوزير سعد العلمي يملك بعض الجواب، لأنه بدوره، وهو المنتمي إلى حزب الاستقلال، يعرف جيدا حدود المواقف المبدئية ومجالات تصريفها، وإن كان الراجح أن التوجه العام الذي يسلكه المغرب في الانفتاح على البلدان الإفريقية التي تعززت علاقاته أكثر معها، بالرغم من انسحابه من منظمة الوحدة الإفريقية في عام 1984، يشكل خيارا سياسيا لتلافي سياسة المقاعد الشاغرة، كما كان يحدث في السابق. بين المغرب وجنوب إفريقيا علاقات تاريخية، تمتد جذورها أبعد، وحين استضاف المغرب أول مؤتمر قمة إفريقي في الدارالبيضاء، بحضور زعامات إفريقية، أمثال الملك الراحل محمد الخامس والرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، والرئيس الغيني السابق أحمد سيكوتوري وغيرهم، كان هاجس تحرير جنوب إفريقيا يهيمن على الأجواء. ولم يفت الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا أثناء زيارته المغرب في تلك الفترة أن يطلب مده بالمال والسلاح، واقترح على محاوريه المغاربة أن يبعثوا بشحنات الأسلحة إلى دار السلام في تنزانيا. غير أن صراعات بين مجموعتي الدارالبيضاء ومنروفيا ستلقي بظلالها على أوضاع منظمة الوحدة الإفريقية. إلا أن المغرب حافظ في غضون ذلك على التزاماته، ولم تحل بعض الارتباطات السياسية خلال مرحلة الحرب الباردة دون الإبقاء على التزاماتها الإفريقية، دفاعا عن وحدة وسيادة وانعتاق البلدان الإفريقية. حدث أن جنوب إفريقيا بعد تخلصها من الأبارتايد أخطأت عناوين الرسائل التي دأبت على توجيهها، ومن بين تلك الأخطاء أنها انساقت وراء ما كان يعرف بالمحور الثلاثي الذي يجمع بين جنوب إفريقيا ونيجيريا والجزائر، بالرغم من أن سياسة المحاور، إفريقيا أو عربيا، أثبتت إفلاسها وعدم نجاعتها، وكان يتوقع من الزعيم التاريخي نيلسون مانديلا أن يبادل المغرب نفس التقدير، لولا أن بعض الأيادي الخفية تحركت لتعكير أجواء أي تقارب محتمل، ولعبت الإغراءات الاقتصادية التي همت فتح أبواب الجزائر أمام استثمارات ذات خلفية سياسية دورا مقنعا في الحيلولة دون حدوث التفاهم المطلوب. الأكيد وجنوب إفريقيا تستضيف مونديال 2010 أن لا علاقة للخلافات السياسية بين المغربي وذلك البلد الإفريقي، لأن المنافسة على احتضان مباريات كأس العام تحدث في أجواء رياضية، ولو أن كل بلد «تعارك» مع الآخر بسبب رسو المنافسة على هذا الطرف أو ذاك، لما حدث أي تقارب في العلاقات بين الدول.نعم هناك خلفيات وأبعاد اقتصادية وتجارية تكيف مسار المنافسة، لكنها تبقى في لإطار الرياضي المحض. ولا يجب أن تتجاوزه، لأن التظاهرات الرياضية تنتهي في زمانها ومكانها المحدد، فيما العلاقات بين الدول تبقى وتستمر، وهي ترتقي إيجابا كلما خلصت النوايا وصدقت الإرادات، لكنها تنحدر كلما تدخلت فيها عناصر غير مبدئية وشابتها ردود أفعال غير موضوعية. لم يكن من حق جنوب إفريقيا، وهي تقدم نموذجا لتضحيات من أجل الدفاع عن المبادئ الإنسانية المثلى وعن المضامين الكبرى لتحرر الإنسان والأوطان أن تسقط في هفوات حيكت ضدها بعناية. كان عليها أن تتريث وتقلب صفحات الملف جيدا وتغوص في أعماق التوتر المفتعل، لتدرك أنها هي المستهدفة من وراء جرها إلى الاعتراف بكيان وهمي لا يتوفر على شروط الاعتراف التي هي السيادة والأرض والشعب. وقد يأتي وقت تتبين فيه حقيقة الموقف السلبي الذي انجذبت إليه. الآن، لا يبدو أن كل شيء قد انتهى، فقد حافظ البلدان على خيط رفيع من الارتباطات، لا هو انقطع نهائيا ولا هو جسر قابل لعبور أكثر مما يحتمله، ففي العلاقات بين الدول تصمد الحقائق التي تتوفر لها شروط الحياة. والمغرب لا يمكنه أبدا أن ينفصل عن جذوره الإفريقية. فقط يتطلب الأمر أكثر من مبادرة تصدر من الجهة التي أخطأت في الرسالة والعنوان معا.