لم يعد، مبدئيا، بإمكان جميع الناس أن يلعبوا كرة القدم ويشاهدوها ويستمتعوا بها، كما ذهب إلى ذلك عبد السلام بن عبد العالي في كتابه «منطق الخلل»، فحسب بن عبد العالي، فإن كرة القدم قيل عنها -مقارنة برياضات أخرى، مثل التنس والكولف- إنها ليست رياضة للنبلاء، وهذا يعني في نظره، من بين ما يعنيه، إضافة إلى الاستمتاع والمشاهدة، أن جميع أطفال العالم، مهما كان وضعهم الاجتماعي والجغرافي، بإمكانهم أن يصنعوا كرة من قش ويضعوا قطع حجر على جنبات الطريق ويخوضوا في مباريات تستغرق ساعات، بيد أن الأمور، يقول الكاتب للتأكيد على منطلقه، أن على ما يبدو في تتجه نحو التغيُّر.. التغيُّر، وبشكله الصارخ، نعيشه اليوم، بكيفية فاضحة، إذ لم يعد بإمكان العديد من الشعوب الاستمتاع ب»الساحرة»، وها نحن نعيش أطوار هذا التبدل الصعبة، فحتى لقطات المونديال في نشرة الأخبار لم تعد متاحة، لنجد أنفسنا -كما ذهب إلى ذلك بعض الزملاء- أمام لعبة «البلاي ستايشن»، في إشارة إلى تقديم اللقطات ذات الأبعاد الثلاثية، لأن المغرب لم يجد في «الجزيرة» التي توسعت مساحات بيدائها، لا نخلة يستظل بها ولا فارسا من مضر أو من بني ثقيف أو ذبيان أو عبس، يمكن أن يتطوع بألف ناقة ليعتق رقبتنا، لتستقر على اتجاه واحد، ولا تبقى دائرة في جميع الاتجاهات مع «البارابول» أو تترقب خبراء ومهندسي القرصنة في «درب غلف»، لينتزعوا لنا حق متعة المشاهدة. في الدورة السابقة، كان يلزم أن تتدخل أعلى سلطة في البلاد كي يتمكن المغاربة من مشاهدة مباراة الافتتاح، ومن الاستمتاع بالمباراتين النهائيتين، والآن صار الذي صار، وتبدلت الأحوال، ولن يبقى لنا إلا أن نطلق تنهيداتٍ عميقةً ونتسمر في المكان مع «كمشة» أوهام... لم يعد بإمكان أطفالنا الاستمتاع أو اللعب، لأن أرض الحمري تغطت بإسمنت يلجم اللعب ولأن التلفزيون اعتلته فقاعات الصابون و»الآيسْ كْريم»، وشفرة «جِليتْ بْلو2»... كرة القدم لم تعد تسلية، ولربما لم تكن كذلك في يوم من الأيام، إنها حرب رمزية مستعرة، بتعبير بورديو، استعارت مفاهيمها من الحرب: هدف، استراتيجية، تكتيك، دفاع، زحف هجوم، انسلال، رايات ترفرف، صيحات الجمهور، توترات المشاهدين، عنف وانتقام من الهزيمة.. في زمن لم تعد تنفع فيه شعارات الأخوة الدافئة: نموذج مصر والجزائر، وقبلهما بسنوات هولندا وألمانيا.. فحين خسرت الأولى ضد الثانية، بصعوبة، سنة 1974، كان مدرب الفريق الهولندي، رينوس مايكلز، لا يتوانى في وصف المباراة باعتبارها بمثابة «حرب».. وحين رد الهولنديون الصاع لألمانيا سنة 1988، كان عدد الذين نزلوا إلى الشوارع احتفالا بالانتصار أكبر من عدد الذين نزلوا سنة 1945 للاحتفال بانتهاء الحرب الحقيقية!.. كما لا يزال التاريخ يحتفظ بتسمية الحرب المسلحة التي اشتعلت بين الهندوراس والسلفادور سنة 1969، بحرب كرة القدم، لأن السبب كان بفعل هذه «الساحرة». هي استيهامات جنسية أيضا بالمفهوم الفرويدي: قذف، مرمى، التفاف، تهويم، توهيم، ترويض، مراوغة... هدف. في نهاية الأمر، تستطيع هذه الساحرة أن تلهينا عن حروبنا الصغيرة، وتلهينا عن صراعاتنا ومبارياتنا الحقيقية، عكس ما يذهب إليه عبد السلام بن عبد العالي، الذي يرى ومع ذلك، أن المتحكمين في هذه اللعبة يظلون عاجزين عن «أن يُثنونا عن الاعتقاد بأن ما ينعتونه بمجرد «لعبة»، يشكل اليوم إحدى النوافذ الأساسية التي يمكن أن نطل منها على الحياة المعاصرة، ذلك أن هذه اللعبة غدت تحدَّد اليوم موازين قوى وتضبط علائق.. إنها بنية تحتية، تحدد التراتبات الاجتماعية وترسم العلاقات الدولية وتعلي من دول وتحطُّ من أخرى، وهي تفعل في السياسة والاقتصاد، ويضيف، بل ولعلها اليوم هي التي تحدد الجغرافيا السياسية، إذ تبدو خريطة العالم وقد أصبحت تُرسَم على «الكُوَيْرة» الصغرى، قبل أن تستنسخ على «الكرة» الكبرى...