كنت في زيارة لأحد أصدقائي عندما دخلت علينا ابنته التلميذة في المرحلة الابتدائية وسألته ببراءة: بابا.. ما هي الإنجازات العظيمة العملاقة للرئيس مبارك..؟ رد صديقي ساخرا: الرئيس مبارك ليست لديه إنجازات عملاقة. هزت البنت رأسها وخرجت واستأنف صديقي حديثه معي، وسرعان ما بان القلق على وجهه فنهض ونادى ابنته وسألها: لماذا سألتيني عن إنجازات الرئيس مبارك..؟! قالت الطفلة: هذا موضوع التعبير الذي أكتبه الآن وسأقدمه غدا في المدرسة.. ماذا كتبت في الموضوع..؟ كتبت ما قلته حضرتك.. الرئيس مبارك ليست لديه إنجازات عملاقة. بان الهلع على صديقي وراح يقنع ابنته بأنها يجب أن تكتب ما قاله لهم المدرس في الفصل وليس رأي أبيها، ولم يتركها حتى تأكد بنفسه أنها كتبت المديح المطلوب في الرئيس مبارك. انصرفت من بيت صديقي وأنا أفكر في أننا نتعلم الكذب في سن مبكرة.. نتعلم منذ طفولتنا أن الحقيقة شيء وما يجب أن يقال شيء آخر. ستكبر هذه البنت وتتزوج وتنجب أطفالا وسوف تعلمهم، كما تعلمت، أن الحقيقة لا يجب بالضرورة أن تقال. ستعلم أطفالها أنه ليس من المفيد دائما أن يقولوا ما يعتقدونه وإنما الأفضل أن يقولوا ما ينجيهم من العقاب أو يجلب عليهم المنفعة حتى لو كان مخالفا للحقيقة.. هذا الشرخ الذي يحدث مبكرا في وعي المصريين بين الحقيقة والصورة، بين ما يحدث في السر وما يظهر في العلن، لا يفارقهم بعد ذلك أبدا.. هذا الأسبوع، تذكرت حكاية ابنة صديقي ثلاث مرات: رأيت في التلفزيون تلاميذ صغارا، أولادا وبنات تم جمعهم ووضعهم أمام الكاميرات ليرقصوا ويغنوا مرددين أناشيد سخيفة مليئة بالنفاق للرئيس مبارك قام بتأليفها وتلحينها مدرسون أخذوا على عاتقهم تعليم تلاميذهم النفاق بدلا من تعليمهم الاستقامة والصراحة. بعد ذلك، تابعت ما يسمى بانتخابات مجلس الشورى ورأيت كيف حشدت وسائل الإعلام الحكومي عشرات المثقفين، من صحفيين وإعلاميين وأساتذة جامعيين، مختلفين في كل شيء إلا في قدرتهم الفائقة على الكذب.. ظل هؤلاء يؤكدون أن الانتخابات تمت بمنتهى النزاهة والشرف بينما هم يعلمون، مثلنا جميعا، أن الانتخابات تم تزويرها بالكامل لصالح الحزب الحاكم بل إن التزوير هذه المرة كان شاملا بعد استبعاد الإشراف القضائي الحقيقي، فقد تم منع الناخبين بالقوة من الإدلاء بأصواتهم وتم تقفيل الصناديق لصالح مرشحي الحكومة. ظللت أراقب وجوه المثقفين الكذابين في التلفزيون ووجدتني أتساءل: كيف يجرؤ رجل يحترم نفسه على هذا الكذب الفاحش..؟! ألا يخجل من زوجته وأولاده عندما يرونه وهو يكذب على الملأ..؟! لا شك أن هؤلاء المنافقين قد تعلموا مبكرا، مثل ابنة صديقي، أن الحقيقة لا يجب إعلانها دائما وأنه من المفيد والمقبول أن نكذب لنحصل على مكافآت وامتيازات.. في نفس الأسبوع، ارتكبت إسرائيل مجزرة بشعة أضيفت إلى سجلها الأسود الحافل بالمذابح عندما هاجم الجنود الإسرائيليون سفينة الحرية في المياه الدولية وأطلقوا النار فقتلوا وأصابوا العشرات من دعاة السلام العزل الأبرياء الذين جاؤوا من دول مختلفة لفك الحصار عن مليون ونصف المليون إنسان في غزة. هذا الحصار المشين تشترك فيه الحكومة المصرية بإغلاق معبر رفح، والغرض من ذلك إرضاء إسرائيل حتى يضغط اللوبي الصهيوني على الإدارة الأمريكية حتى تقبل توريث الحكم في مصر من الرئيس مبارك لنجله جمال.. الغريب أن الحكومة المصرية بعد أن أدانت المذبحة باعتبارها استعمالا مسرفا للقوة.. (لاحظ ليونة التعبير) دعت دول العالم إلى العمل على فك الحصار عن غزة.. يا لها من أكذوبة كبرى.. كيف يدعو النظام المصري إلى فك الحصار عن غزة بينما هو طرف أصيل في هذا الحصار؟!. بدلا من هذه الدعوة البلاغية الفارغة لماذا لا يبدأ النظام المصري بنفسه ويفتح معبر رفح بشكل دائم حتى تتدفق الأغذية والأدوية والمساعدات على إخواننا المحاصرين في غزة..؟.. إن الأكاذيب قد انتشرت في حياتنا اليومية إلى درجة أن معظم ما نراه يبدو كأنه حقيقي وهو كاذب.. كبار المسؤولين عندنا يفاخرون بالإصلاحات الديمقراطية التي حققوها. أول مبادئ الديمقراطية تداول السلطة بينما الرئيس مبارك يحكم مصر منذ ثلاثين عاما، فأين الإصلاح الديمقراطى؟.. في مجلس الشعب تدور مناقشات ساخنة تصل إلى حد المشادات العنيفة بين النواب، مما قد يعطي انطباعا بأن في مصر برلمانا حقيقيا، والواقع أن كل ما يحدث في البرلمان قد قرره سلفا الرئيس مبارك الذي تكفي إشارة واحدة منه لكي يغير نواب الحكومة رأيهم فورا من النقيض إلى النقيض. إن معنى الاستبداد أكبر بكثير من الاستحواذ على السلطة. الاستبداد يعني، في جوهره، اغتصاب حق الناس في الاختيار وكسر إرادتهم وإخضاعهم بالقوة لرغبات شخص واحد.. الأمر الذي يقضي على احترامهم لأنفسهم ويجعلهم أكثر قابلية للإذلال. الأسوأ من ذلك أن الاستبداد يعطل مبدأ الانتخاب الطبيعي ويقدم الولاء على الكفاءة فلا تمنح المناصب غالبا لمن هم أهل لها، إنما يكافأ بها الأتباع والمريدون على إخلاصهم للحاكم.. الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى غياب العدالة، مما يجعل الأسباب لا تؤدي إلى النتائج.. فالاجتهاد والذكاء لا يؤديان بالضرورة إلى النجاح والانحراف لا يؤدى بالضرورة إلى العقاب. هنا، يتحول الكذب من نقيصة إلى مهارة تجلب المنافع ويتحول النفاق إلى نوع من الكياسة واللياقة يؤدي بالمنافق إلى الحصول على مغانم كان بالتأكيد سيفقدها إذا قال الحقيقة، وهكذا يتلف شيئا فشيئا إحساسنا الفطري بالشرف ونقع في ازدواجية بين ما نقوله وما نفعله.. إن الانحراف الأخلاقي الناجم عن الاستبداد سرعان ما ينتقل من المؤسسات السياسية إلى كل مجالات الحياة.. ففي مصر (وفي الدول العربية الواقعة جميعا، للأسف، في براثن الاستبداد).. كثيرا ما يعيش الناس انفصالا كاملا بين القول والفعل، بين المظهر والجوهر، بين الصورة البراقة والحقيقة المؤلمة.. يكفى أن تطالع صفحات الحوادث في الصحف لتجد معظم المتهمات بالجرائم محجبات، يكفي أن تمشي على ضفاف النيل لتجد عشرات الشبان الذين يختلسون اللمسات والقبلات مع فتيات محجبات، بل إن فتيات كثيرات يرتدين مع الحجاب ملابس ضيقة تثير الغرائز أكثر من ملابس السافرات المحتشمات.. أنا أحترم المحجبات وأحترم الحجاب كاختيار شخصي لا يمنع المرأة من التعليم والعمل، لكنني ببساطة ضد الانفصال بين المظهر والسلوك، كما أنني أعتقد أن ما نفعله في هذه الحياة أهم بكثير مما نرتديه من ملابس.. المسؤولون في الدولة المصرية الذين يقمعون المصريين ويزورون إرادتهم في الانتخابات ويتسببون في نهب أموالهم وإفقارهم وتجويعهم. معظم هؤلاء المسؤولين يؤدون الصلاة في أوقاتها ويصومون ويحجون إلى بيت الله الحرام ويؤدون العمرة أكثر من مرة وهم لا يرون أي تناقض بين ورعهم الديني والجرائم التي يرتكبونها في حق الناس.. إن الازدواجية التي يبدؤها الاستبداد في قمة السلطة، سرعان ما تنتشر مثل السرطان في جسد المجتمع كله لتدمر خلاياه الأخلاقية وتعلم الناس الكذب والخداع والنفاق. هذا بالضبط ما يحدث الآن في المجتمعين المصري والعربي، لا يعني ذلك بالطبع أن المصريين والعرب جميعا كذابون، بل إن قلة ممتازة من الناس سوف تظل قابضة على الجمر، متمسكة دائما بالقيم الأخلاقية الصحيحة مهما تكن الظروف غير مواتية.. لكن كثيرا من البشر لديهم من الضعف الإنساني ما يجعلهم غير قادرين على التمسك بالاستقامة في مجتمع معوج ودولة استبدادية ظالمة. إن اتساق القول مع الفعل والاستقامة والصراحة وكل مفردات الشرف لا يمكن أن تتحقق من قاعدة المجتمع فقط دون قمته، فالسمكة تفسد دائما من رأسها كما يقول الصينيون.. ستظل الدعوة الفردية إلى إصلاح الأخلاق قليلة التأثير ما لم يصاحبها إصلاح سياسي يعيد إلى الناس حقهم الطبيعي الأصيل في اختيار حكامهم ويجعلهم سواسية أمام قانون عادل وقاض محايد مستقل لا سلطة عليه إلا من ضميره.. عندئذ فقط، سوف يبرأ المجتمع من الكذب والنفاق وسيقول الناس ما يعتقدونه ويفعلون ما يقولونه. الديمقراطية هي الحل.