ما هي المسافة الحقيقية بين عالم الإنسان وعالم الحيوان؟ هل هناك، فعلا، انفصال تام بين العالمين أم إنهما متداخلان/متقاطعان باستمرار؟ ربما هناك احتمال ثالث للعلاقة بين هذين العالمين.. إنه احتمال التَّماس، لا انفصال ولا تداخل، تَماسّ يجعلهما عالمين قائمي الذات بدون مسافة فاصلة.. عند هذا التماس وقفت التجربة المسرحية الجديدة لفرقة «مسرح أبعاد» من الدارالبيضاء، لتسائل -من خلال بافيل الجندي الهارب من الحرب والمختبئ في زريبة الخنازير- مدى إمكانية العيش/التعايش بين المنطقتين. المسرحية معدة عن نص «مكان مع الخنازير» لأثول فوغارد.. المكان، إذن، مركز الصراع ومجاله.. المكان نقطة الاتصال والانفصال، والتقاطع والتداخل.. المكان، في حميميته وعدائيته، صلب الحدث والإحساس، والرغبة والرهبة.. اختارت «أبعاد» أن تجعل المكان بطلا مركزيا تطل من خلاله على قيم أخرى: قيمة الجبن والشجاعة، قيمة الجريمة والعقاب، قيمة التقييد والتحرر.. واختارت أن تعلِّق هذه القيم على كاهل صورة شبح (نيگاتيڤ)، وعلى كاهل إرادة سلبية (نيگاتيڤ). والكاهلان، معا، يختزلهما بافيل إيفانوفيتش نافروتسكي الذي فرَّ من ساحة حرب لا علم له بها ولا ربح له من ورائها، واستقر بزريبة خنازير مدة طويلة، لكنها -رغم طولها- لم تفقده الرغبة في التمسك بإنسانيته، أو حتى الرغبة في استرجاعها إذا ضاعت منه فعلا في غفلة منه وهو يعاشر كائنات أخرى لا مجال للحس الإنساني في وجودها.. قدّم العرض صورة الأجواء الحزينة القاتمة البكائية بأسلوب فني وقالب جمالي خفّف من وطأة القرف رغم الإيقاع العنيف الذي شد الأنفاس قبل الانتباه.. إيقاع متصاعد بلحظات درامية قاسية على المتلقي إلى درجة جعله عاجزا عن التصفيق حتى نهاية العرض، بل إن لحظات الانفراج الخفيفة كانت قصيرة وضيقة (حديث براسكوفيا عن الزواج عن طريق الجمع بين الخنازير والأبقار لباس بافيل النسوي قبل الخروج للنزهة) سرعان ما جعلت الأنفاس تعود إلى حالتها الأولى في انتظار النهاية التي حررتنا بصعوبة في اللحظة نفسها التي تحرر فيها بافيل، وقرر الخروج من جبنه رغم العقاب الذي ينتظره، وعزاؤه في ذلك أنه سيرى نور الشمس.. عشنا مع «أبعاد» تجربة النص القوي الشاعري، والإخراج المتمكن، رؤيةً وأسلوباً، والتمثيل المتقن، تلفظا وحركة وإحساساً.. فالإخراج كان واضحا أنه صادر عن مخرج مجرّب خبر الخشبة بما يكفي، واكتسب من المفردات ما يؤهل، وراكم من التجربة ما يفيد، لذلك تظهر الصنعة الفنية واضحة المعالم، وتظهر اللمسة الجمالية عميقة الأثر.. صنعة دمجت بين عناصر الديكور المرئية، وذبذبات الموسيقى والمؤثرات الصوتية المسموعة، وإدارة الممثلين المضبوطة.. وكل هذا التناغم جعلنا نحس بأنه إخراج صادر عن رؤية وتصور، ويسير نحو ترسيخ أسلوب خاص. أما التمثيل فقد شكل مركز الثقل في العرض، إنجاز مسرحي بإيقاع متصاعد على امتداد ساعة وربع على كاهل ممثلين أعزلين إلا من موهبتهما وتجربتهما، وتمكنهما من تعليمات الإخراج، وبحثهما العميق في الشخصية، وقدرتهما على الانسجام حتى في ذروة صراعهما واختلافهما (رغم الفارق الملحوظ بين تجربة الممثلة وتمكنها، ودهشة الممثل وتردده).. هذا التناسب الجميل بين شحنة النص ومفردات الإخراج ولمسات التمثيل ما جعلنا أمام فرجة متميزة تضع في اعتبارها جوهر الفكرة ومتعة المشاهدة. وللإشارة، فالمسرحية تم إنجازها بدعم من الصندوق العربي للثقافة والفنون، وهي من إعداد وإخراج عبد المجيد شكير، وتشخيص عائشة مناف ومصطفى قيمي، قدمت بمناسبة اليوم الوطني للمسرح بقاعة سينما أطلنتيد بمدينة آسفي يوم السبت 17 ماي المنصرم، بتنسيق مع فرقة «همزة وصل للإبداع».