لم تعد مدينة تطوان، المصنفة كتراث عالمي من قبل منظمة اليونسكو، كما كانت عليه في السابق، فقد تم ترييف الحمامة البيضاء بشكل متعمد وفظيع لم تشهده من قبل. فالفوضى والتسيب يعمان المدينة بفعل تواطؤ المسؤولين الذين يستمتعون بالتفرج على ما تفعله معاول التخريب المتعمد في حقها وفي حق أحيائها وشوارعها، بين تجاهل الأمر من طرف جمعيات «المجتمع المدني»، واستسلام الساكنة للأمر الواقع. العشرات من النقط السوداء أصبحت تشوه المدينة التى كانت رمزا للنظافة والأمن والثقافة، فأضحت رمزا لتجارة المخدرات، والانفلات الأمني، واحتلال ملكها العمومي وأرصفتها من طرف مقاه وباعة متجولين، فرضوا أنفسهم بالقوة على سلطة ومجلس منتخب عاجزين عن إيجاد حل لهذه المعضلة. يصاب زائر مدينة تطوان بالدهشة جراء جانبها التنظيمي وصعوبة حركة المرور في شوارعها وأرصفتها التي من المفروض أنها خاصة بالراجلين فيما يتم استغلالها من طرف بائعي صيكوك والحلزون، وباعة الأفلام المقرصنة. ارتفع معدل الجريمة بتطوان، بشكل كبير نتيجة الإدمان القوي والمتسع على المخدرات الصلبة، وأعاد بعض اللصوص والنشالين انتشارهم في شوارعها وأزقتها، حيث لم يعد بإمكان المواطن التجول ليلا كما عهدت المدينة أيام عزها، عندما كان سكان تطوان يخرجون للتجول بعد وجبة عشاء عملا بالتقاليد الإسبانية التي ورثوها عنها أيام الحماية الإسبانية. بل أصبحت المدينة تعيش حظرا ليليا للتجول، وإن كان بشكل غير معلن عنه رسميا، تجنبا لتعرضهم لاعتداءات اللصوص واعتراض سبيلهم، فيما يقبع المسؤولون في مكاتبهم مكتفين بالتفرج على مأساة حقيقية تعيشها المدينة. الحديث عن النقط السوداء بمدينة تطوان متشعب، على اعتبار ما باتت تعرفه المدينة خلال السنين الأخيرة من ترد في أوضاعها. «المدينة أصبحت مثل فطائر «البغرير» مليئة بالثقوب والنقط السوداء. نقاط أصبحت تمتد كبقع الزيت إلى مناطق كانت منذ سنين خلت ناصعة البياض»، يقول بتحسر أحد سكان تطوان. تبدأ معاناة المدينة من مشكل الخصاص في الأمن، إلى الباعة المتجولين، الذين احتلوا أحسن شوارعها العامة مفترشين بضاعتهم، مقابل صمت الجميع، إلى غزوها من طرف المختلين عقليا، لتنتهي بمشكل التغذية حيث إن أكثر من 700 رأس من الأبقار ترعى يوميا في نفايات المطرح العمومي، فيما تسقي المياه العادمة أكثر من 50 هكتارا من الأراضي في مناطق الصرف الصحي، في ضواحي تطوان، في أماكن مازالت مصالح التطهير التابعة لشركة أمانديس لم تجر إصلاحات في قنوات مجاري المياه العادمة بها، ناهيك عن مشكل المواطنين مع عدادات سيارات الأجرة ومحطات الحافلات شبه العشوائية. أراض زراعية تسقى بالمياه العادمة! لا يخطر على بال أحد من ساكنة تطوان، أن بعض الخضر، من طماطم وبصل وبطاطس والنباتات المستعملة في السَّلَطة التي يطلق عليها «الخس» وغيرها من النباتات التي تباع في الأسواق الشعبية، ربما لا تتوقف خطورتها على رشها بالمبيدات المخصبة والأسمدة الكيماوية، كما أن ربات البيوت اللائى ينتقين النعناع و«الربيع»، لا يدرين أن تلك «الربطة» ذات الحجم الكبير من النعناع، قد تكون زرعت فى مياه «الواد الحار» التي تجري فيها مخلفاتهم الآدمية. هنا فى مناطق تطوان والضواحي، تقع كل يوم، ومنذ سنوات عديدة، حوادث تتصل بأرواح الناس وغذائهم، أكثر من 100 هكتار من الأراضي بتطوان مزروعة بالكامل بمختلف أصناف الخضروات والنباتات تسقى بمياه الصرف الصحى الآسنة التي تصب من مجاري المدينة، كما هي، بمخلفاتها الآدمية دون أية معالجة كيميائية، ضدا على كل قوانين سقي المنتوجات الفلاحية. «كان أكثر من 100 هكتار من الأراضي تزرع في مناطق الصرف الصحي، في ضواحي تطوان، خاصة في أماكن مازالت مصالح التطهير التابعة لشركة أمانديس لم تجر بها إصلاحات في قنوات مجاري المياه العادمة، لكن اعتقد أن تلك المساحة قد انخفضت نوعا ما مقارنة بالسنوات السابقة»، يقول الدكتور مصطفى حريكات، مدير المكتب البلدي للصحة بتطوان، مضيفا أن «المواد الغذائية النباتية تشكل أكثر المنتجات الفلاحية المسقية بمياه الصرف الصحي، بالإضافة إلى البقوليات والنعناع، الذي يعتبر أهم منتوج فلاحي يحظى بالسقي بالمياه العادمة». يعتمد بعض الفلاحين على هذه المياه فى ري حقولهم دون أي إشراف صحي يذكر من طرف المكتب البلدي أو مصالح قمع الغش أو وزارة الفلاحة. «تفضيل بعض الفلاحين سقي مزروعاتهم بالمياه العادمة سببه سعيهم إلى تقليص نفقات الري»، يشرح الدكتور حريكات، مشيرا إلى أنه عوض حفر آبار للري، أو ري الأراضي باستعمال محركات تعمل بالوقود، فإن بعض الفلاحين يفضلون سقيها بمياه الصرف الصحي المجاورة لأراضيهم الفلاحية». كما أنه للمفارقة، يستطرد الدكتور، فإن «حجم المنتجات الفلاحية المسقية بالواد الحار تكون أكبر حجما من نظيرتها العادية، نظرا لكون هذه الأخيرة تحتوي على مواد عضوية، تعتبر كسماد أو غبار، رغم ما تشكله من خطر كبير على صحة المستهلك». هنا يزرع البعض، كما يحكي حسن من قرية بضواحي سمسة، الخضروات، دون الحاجة لأي سماد كيماوى أو عضوي. الرهان على تقديم النصائح وتقول فطومة، وهي إحدى الفلاحات بالمنطقة، إنها تزرع حقلها بالفلفل والنعناع والباذنجان، وبعض المزروعات الأخرى، وإذا ما قررت التوقف عن سقي حقلها الصغير بمياه الصرف الصحي فسيتوقف رزقها ورزق عائلتها». الفَلاّحة المسنة لا تدرك حجم الأضرار الصحية التي تسببها منتوجاتها الزراعية على المستهلكين. فحسب مدير المكتب البلدي للصحة فإنه لا يمكنهم منع تلك المنتجات من عرضها وبيعها في الأسواق «باعتبارنا نجهل أماكن زراعتها وبالتالي فإن كل ما نقوم به هو تقديم نصائح إلى أصحاب محلات الأكلات الخفيفة، والمطاعم من أجل غسلها بالماء وجافيل بهدف تخليصها من الميكروبات العالقة بها جراء سقيها بمياه الواد الحار». أمراض عديدة تصيب المستهلك بسبب تلك المنتجات الغذائية كمرض السل والتيفوئيد، وإن كان حريكات يرجح تقلص تلك الأمراض المترتبة على المياه الملوثة وعن تناول مواد غذائية مصدرها حقول مسقية بالمياه العادمة». ساكنة تطوان تعتبر نفسها أول الضحايا لما يحدث، لأنهم يستهلكون هذا المحصول، ولا يملكون حلا بديلا، إلا أن عددا منهم اتخذ خطوة أكثر إيجابية فى محاولة إيقاف هذه الزراعة التى يرونها خطرا على كل السكان فى المناطق التى تذهب إليها هذه الخضروات». إن النعناع المغروس في حقول مسقية بالواد الحار يكون «مشبع مزيان» يقول الدكتور حريكات، حيث يقلل من المخاطر الموجودة ويصفها بالضعيفة مقارنة بالسنوات السابقة، لكن، في الآن نفسه، لاتزال هناك مخاطر أخرى بالنسبة إلى عدد من المراقبين. «شركة أمانديس» هي التي تتحمل مسؤوليتها عن ذلك، فنحن مازلنا ننتظر انتهاءها من إصلاح قنوات الصرف الصحي» يحذر مدير المكتب البلدي للصحة. إن زائر منطقة تقع وراء ولاية الأمن بتطوان، بعين خباز، لا يمكنه مقاومة الرائحة الكريهة للمياه السوداء التي تجري ببطء في بعض الحقول، أغلبها مزروع بالنعناع والبقوليات. من جهته، يقول رئيس جمعية حماية المستهلك بتطوان إن نسبة كبيرة من ساكنة تطوان تتغذى بالمواد النباتية (البقول والخضراوات). هذه المنتجات تأتي من الحقول المحيطة بالمدينة «فيعتقد المواطن أن هذه المنتجات آتية من حقول خارج المدينة ومسقية بالعيون والآبار العذبة الخالية من كل ضرر، لكنها للأسف جد ملوثة، تسقى بالمياه العادمة حيث يتم فتح فوهات في تلك القنوات من أجل تحويل صبيبها للسقي». ويضيف رئيس جمعية حماية المستهلك أنهم «وجهوا نداءات وإنذارات إلى كل من الولاية والجماعة الحضرية في مجلسها السابق»، إضافة إلى عقد ندوات وموائد مستديرة يستدعى إليها مختلف المسؤولين في الصحة قصد المشاركة في توضيح المخاطر واتخاذ التدابير اللازمة إزاء هذه الآفة، «لكن للأسف يتغيب وبدون عذر مدير المكتب البلدي للصحة، الدكتور حريكات، وكأن الأمر لا يعنيه ولا يعني الجماعة الحضرية بكاملها. «أعتقد أن صحة المواطن وأمنه الغذائي يأتي في آخر أولوياتهم واهتماماتهم»، يتأسف رئيس الجمعية. نتائج التحاليل المختبرية أثناء إنجازنا لهذا التحقيق قررنا الاتصال بأهل الاختصاص، وهم بعض الخبراء الزراعيين بولاية تطوان. كان ذلك بشكل غير رسمي، نظرا لحساسية الموضوع، حسب قولهم. وكانت نتيجة خلاصتهم لتحليل عينات من المياه والنباتات فى منتهى القسوة. عينة مياه الواد الحار بالمناطق المذكورة في ضواحي تطوان أثبتت أهنا غير صالحة للاستخدام الآدمي، كما يتضح من خلال التحليل الميكروبيولوجى للعينة المأخوذة، ارتفاع عدد بكتيريا القولون البرازية بصورة مخيفة، حيث إن العدد الاحتمالي للمجموعة القولونية لكل 100 ميليليتر لا تزيد على 5 آلاف خلية، فى حين أظهر التحليل أن عدد الخلايا هو 55 ألف خلية، بما يضاعف 12 مرة الحد الأقصى المسموح به، وتصل كمية بكتيريا القولون الكلية إلى 114 ألف خلية لكل 100 ميليليتر. كما اتضح من خلال التحليل وجود كل الطفيليات المضرة بالصحة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، سالمونيا، إنتناميبا هستولتيكا، بل حتى الديدان الحية، بالإضافة إلى إصابة المستهلك بعدة أمراض كالسرطانات والملاريا والتيفويد والبلهارسيا والإسهال، وكذلك الإصابة بأمراض الفشل الكلوي. وخلص محدثونا الخبراء إلى أنه لا تجرى أي معالجة لهذه المياه العادمة، حيث اتضح أنه لا يصح استخدام هذه المياه نهائيا في الزراعات، كما تحظر ملامستها. خلاصة الخبراء الزراعيين يفندها العربي، وهو فلاح آخر من سمسة، حيث لا يرى هذا الأخير أي خطورة في ذلك. «هذه المياه تعطي أفضل زرع دون داع لرش أي مخصب كيماوي، أو سماد»، نسأله لماذا، فيجيبنا بسخرية البسطاء، «لما فيها من خيرات الله»، هكذا يرد العربي مشيرا بيده إلى مياه الواد الحار التي تصب خلفه. جريمة في حق المواطن إن مراقبة المنتوجات الغذائية الفلاحية المسقية بالواد الحار لا تشكل أي اهتمام لدى السلطات الصحية المعنية. فحسب مسؤول من ولاية تطوان، فإنهم «لم يتوصلوا بأي تقرير ينبه إلى خطورة هذه المنتوجات الفلاحية على صحة المستهلكين، كما أن القسم الاقتصادي بالولاية لم يقم إلى حد الآن بأي معاينة رفقة المكتب البلدي للصحة من أجل منعها». ويشير المسؤول إلى أنه بمجرد توصل القسم الاقتصادي بتقرير عن ذلك، فإنهم سيشكلون لجنة لمنع ومحاصرة هذه المنتوجات حتى لا تصل إلى المستهلك. «أعتقد أن المكتب البلدي للصحة هو المسؤول عن المراقبة بالإضافة إلى وزارة الفلاحة وقسم حماية النباتات والإنتاج النباتي، فهي المصلحة المخول لها إجراء تحاليل على هذه المنتوجات التي تسقى بالمياه العادمة لتكشف مدى ضررها على صحة المستهلك»، يؤكد مصدرنا، الذي أضاف أنه لا وجود للمراقبة، «الآلاف من الأراضي الزراعية المغربية مسقية بالمياه العادمة، وبالتالي أعتقد أنه تصعب محاربة هذا النوع من الزراعة». في تقرير طبي حول الموضوع أنجزته منظمة الصحة العالمية، فإن نتائج تحليل عينات النباتات المسقية بمياه الواد الحار (لفت، بصل، نباتات أخرى) قد تخطت الحدود الحرجة للعناصر الثقيلة وتركيزها داخل هذه النباتات. وقال التقرير إنه من الواضح ارتفاع تركيز الميكروبات الثقيلة داخل هذه النباتات عن الحدود المسموح بها، ومنها عناصر الكادميوم، والزنك. كما خلص إلى أن هذه العينات والمزروعات تعتبر غير صالحة للاستخدام الآدمي، نتيجة ارتفاع تركيز بعض العناصر السامة فيها وهي عناصر (الكروم، والرصاص، والكادميوم، والزنك)، وذلك طبقا لما ورد في تقرير منظمة الصحة العالمية.