بانضمامه إلى المطالبين بإقرار إصلاحات سياسية ومؤسساتية، يكون حزب «الأصالة والمعاصرة» قد نأى بنفسه بعيدا عن انتقادات همت ظاهرة «الترحال السياسي»، التي ابتلي بها المشهد الحزبي منذ سنوات عديدة، ولازالت تداعياتها مستمرة إلى الآن، بالرغم من ارتفاع الكثير من الأصوات المنددة بهذا السلوك. وإذا كان بيان «الأصالة والمعاصرة» اكتفى بالإعلان عن تشكيل لجنة سياسية لدراسة الإصلاحات التي تطال مدونة الانتخابات والقانون المنظم للأحزاب، تاركا لها حرية اقتراح الصيغة التي تراها ملائمة، فإن الأهم هو أن ملف الإصلاحات يكاد يستقر عند هذه الجوانب، خصوصا أن بعض الأحزاب التي أطلقت دعوات الإصلاحات السياسية ركزت على انتقاد ظاهرة الترحال السياسي، وأما ما يتعلق بقوانين الانتخابات، فإن إقرارها جاء بمبادرة من الحكومات المتعاقبة، وفي إطار توافق عبرت عنه الفرق البرلمانية المختلفة في الأغلبية والمعارضة. يطرح السؤال: لماذا تأخر حزب «الأصالة والمعاصرة» في الدخول على خط هذه الدعوات؟ هل لأنه كان يضع أولويات أخرى، كتلك التي عبر عنها في اختياره الذهاب بعيدا في مواجهة حكومة الوزير الأول عباس الفاسي؟ أم لأنه كان بصدد الانتهاء من ترتيبات داخلية، كتلك التي همت «تطهير» صفوفه من بعض الأسماء التي تشير إليها الأصابع بنعوت شائنة؟ أم لأنه كان ينتظر نتائج المشاورات التي بدأها مع فعاليات حزبية أخرى؟ مهما كانت الأجوبة، فإن الحزب الذي بادر في مرات عديدة إلى اقتراح قضايا للنقاش، لم يكن هذه المرة سباقا إلى تبني فكرة الإصلاحات، ولعل في ذلك إشارة إلى أنه ربما كان يراهن على حسابات أخرى، لكنه لا يزال، مع ذلك، يثير الجدل، وقد يكون تعمد خلط الأوراق لقطع الطريق عن خصومه. لذلك، اقترنت عودة فؤاد عالي الهمة إلى الواجهة بطرح المزيد من الأسئلة حول استراتيجية الحزب. عندما عانق الهمة رئيس الفريق النيابي للعدالة والتنمية، المحامي مصطفى الرميد بمناسبة تقديم العزاء في المرحومة والدته، فهم الأمر بأنه التفاتة إنسانية تندرج في صميم العلاقات التي تحكم المجتمع المغربي في الأفراح والمآثم، حيث يلتقي الخصوم السياسيون ويتصافح الإخوة الأعداء، لكن المواقف السياسية يمكن أن تبقى على حالها. فهل أراد الهمة الخروج عن هذا التقليد بتوجيه رسالة سياسية ليست عصية عن الإدراك؟ أم أنه كان يمهد لتعبيد الطريق لمبادرة سياسية لم تتبلور بعد؟ خصوصا أنه رهن استمرار المشاورات مع الأحزاب السياسية بسقف الانخراط في مشروع المجتمع الديمقراطي الحداثي، مما يجعل حزب «العدالة والتنمية»، ضمنيا، خارج سياق هذا الانفتاح. الآن، يبدو أن تلويح «البام» بملف الإصلاحات السياسية أريد من ورائه عدم ترك القضية في نطاق الأوراق التي تحركها أحزاب الأغلبية الحكومية، ما دامت هذه الإصلاحات يمكن أن تباشرها الحكومة وتدفع بمشاريع قوانينها إلى البرلمان الذي سيجيزها حتما في ضوء توفرها على مساندة نيابية، لكن التجارب أكدت أن الإصلاحات ذات الأبعاد الوطنية في التعليم أو الانتخابات أو المسائل الاستراتيجية تكون إجازتها أجدى وأنفع عبر الإجماع الوطني، حتى تكون قوتها أكثر إلزاما من الناحيتين السياسية والمعنوية. ومعنى ذلك أن الحزب قد تكون له رؤية مغايرة حول مجالات هذه الإصلاحات، سيما أن أحزابا مثل الاتحاد الاشتراكي والاستقلال تحدثت عن الإصلاحات المتلازمة والحد من ظاهرة الترحال السياسي. ولا يمكن لأي حزب آخر أن يقبل بتوجيه مسار الإصلاحات في غير الأبعاد التي تقتضيها، طالما أن الترحال السياسي ليس مقبولا ولا يمكن أن يستمر، حتى وإن اقتضته ظروف ومعطيات آن لها أن توضع وراء الظهر. قد يكون «الأصالة والمعاصرة» أدرك أنه المعني أكثر بغمزات خصومه السياسيين، وقد يكون رغب في عدم الرد عليها، لكي لا يبدو في موقع الدفاع عن النفس، إلا أن الأهم هو أن مناداته بالإصلاحات تروم سحب البساط من تحت قدمي الائتلاف الحكومي كي لا يبقى وحده في الصورة، وقد يكون متوفرا على تصورات أخرى حول مفاهيم الإصلاحات المؤسساتية، سيما أنه حرص في بيانه على تأكيد صفة المؤسساتية وليس الدستورية، بما يعنيه ذلك من الانصراف إلى مؤسسات مثل الوزارة الأولى أو الغرفة الثانية في البرلمان أو ضبط مجالات العلاقات بين المؤسسات. لكن ذلك متوقف على خلاصات اللجنة السياسية التي تحتاج في عملها إلى المزيد من الوقت. يفهم من صيغة المؤسسات أن «الأًصالة والمعاصرة» ربما يرهن ملف الإصلاحات بمشروع النظام الجهوي، الذي يتبعه المغرب لإقراره في ضوء خلاصات اللجنة الاستشارية. فالجهوية يشار إليها كمؤسسة دستورية في الدستور المراجع عام 1996، إلا أن منحها صلاحيات أوسع، وفق منظور الجهوية الموسعة، قد يتطلب تعديلات جوهرية أو مكملة للصيغة السالفة. وبهذه الطريقة سيكون «الأصالة والمعاصرة» قفز بعيدا من مربع الانتقادات التي كانت موجهة إليه إلى خط المبادرة المتوافقة مع رهانات المستقبل. نظريا، ربما يكون الأمر ينحو في هذا الاتجاه، وربما كان أقل أو أكثر من هذه الاستقراءات. غير أن التجربة تؤكد أن معارك «الأصالة والمعاصرة» لا تتوقف عند واجهة محددة، إذ أعلن، منذ البداية، أنه يناهض ما يصفه بالأفكار والتيارات الظلامية، إلا أنه انزلق إلى صراعات أخرى قد يكون دفع إليها أو وجد نفسه يخوضها من غير استعداد، إذا وضعنا في الاعتبار أنه تواجه مع الاستقلاليين ومع الاتحاد الاشتراكي بدرجة أقل عنفا. ويمكن تفسير الأمر بأنه يبحث لنفسه عن موقع مختلف في المشهد الحزبي أو أن بعض المحسوبين عليه يندفعون في معارك هامشية. غير أن المتابعين لتحركات عرابه فؤاد عالي الهمة يرون الصورة عكس ذلك، فهو ما انفك يصافح الجميع ويتودد إليه الجميع كأنه حزب في رجل أو رجل في كل الأحزاب، لكن لا أحد يستطيع أن يقرأ حقيقة ما يجول في خاطره طالما أنه يلتزم صمت أبي الهول.