لا يمكن أن نفهم الولاياتالمتحدةالأمريكية إذا لم نتعرف على نجمها الكبير القس بيلي غراهام، ولا يمكن أن نفهم السلوك السياسي الأمريكي في العالم إذا لم نكن على دراية بمفتاحها الديني الذي يجسده خير تجسيد رجل دين ولد سنة 1918 بولاية كارولينا الشمالية، وألقى مواعظه الدينية في أكثر من مئة مليون شخص، في أربع وثمانين دولة بالمعمور على مدى العقود الستة المنتهية. فلا البابا السابق جان بول، ولا الزعيم الديني الشهير مارتن لوثر كينغ، ولا الزعيم الهندي الفريد المهاتما غاندي، استطاعوا أن يخطبوا في مثل هذه الحشود. ففي ساحة ييوودو بالعاصمة الكورية سيول، خطب غراهام في مليون ونصف مليون شخص في شهر يونيو سنة 1973، وفي قصر بيرسي بقلب العاصمة الفرنسية شهد موعظة الواعظ، وسط دهشة وذهول المراقبين، أكثر من مئة ألف فرنسي بين 20 و27 شتنبر 1986. ومنذ 1960 والواعظ الأمريكي يتسلق درجات المناصب الدينية ويحتل المساحات المترامية الأطراف بلا منازع. ولا أدل على ذلك من اختياره وحده من دون الواعظين، يوم الرابع عشر شتنبر 2001، ثلاثة أيام بعد إسقاط توين سنتر بقلب نيويورك، ليلقي موعظة بليغة في الشعب الأمريكي في الكاتدرائية الوطنية وأمام الرئيس جوج بوش الابن والنخبة السياسية الأمريكية كلها. مثله مثل إلفيس بريسلي، وفلاش غوردون، وجون كينيدي وجون واين وأوباثمان، يسكن بيلي في مخيلة الشعب الأمريكي كله. فعلى مدى أربع وأربعين مرة متوالية، ظل غراهام يتصدر القائمة السنوية للشخصيات الأمريكية العشر المعجب بها في الولاياتالمتحدةالأمريكية حسب معهد غالوب الشهير. ولو طلبنا تفاصيل أكثر، لعلمنا أنه متقدم على ريغان (29 مرة) وعلى البابا جان بول الثاني (24 مرة) وعلى دوايت إيزنهاور(21 مرة). أول شيء يشدك وأنت تستمع له أو تنظر إليه وهو يعظ، قدرته على الإقناع والحماسة في الوعظ إلى أقصى مدى، فهو مأخوذ بما يقول، تجري رسالته في عروقه مجرى الدم، يتدفق الكلام منه، وجل كلامه مقاطع من الإنجيل حفظها من كثرة القراءة اليومية، كما يتدفق الماء من الشلال، حتى لقبه الأمريكيون فقالوا عنه إنه «رشاشة الرب». وما انقطعت أسفاره العالمية وما صدر إحصاء شامل لها إلى يومنا هذا، رغم تقاعده وعزلته لكبر سنه وضعف بصره وشيبته. دؤوب في العمل على حساب نفسه وراحته وأسرته، حريص على تجميع المسيحيين بكل مللهم ونحلهم، مبتعدا عن كل نقد لاذع. استطاع أن يعيد الحيوية والتعبئة إلى العقيدة المسيحية في كل الفئات الاجتماعية، خاصة الفئة الوسطى، لإيمانه بأن «لاشيء يزيد في الإيمان مثل الدعوة إليه». تلقى عشرين مليون رسالة مكتوبة إلى حدود سنة 1990، و145 ألف رسالة أسبوعيا، وطوفانا من المكالمات الهاتفية، وأنشأ مجموعة من المؤسسات والمنظمات الرائدة التي قامت بعمل كبير في التعريف والدعاية لوعاظ بروتستانتيين جماهيريين، مثل مؤسسة المسيحية اليوم «كرستيانتي توداي». وجه وشارك في مشروع «تنصير العالم»، حلمه الكبير، المنعقد في لوزان السويسرية عام 1974 بمشاركة 4000 مندوب من 150 دولة، والتي انبثقت منها جمعيات ومنظمات تحمل الغاية نفسها دون إخفائها بالقارات الخمس في تنافس وتنسيق بينها. كما أيد أعمالا قائمة لهذا القصد، أبرزها «المقاولة الدولية لتنصير العالم: معسكرات المسيح» التي أسسها بيل برايت. وتناسلت مدارس تكوين المبشرين الإنجيليين في العالم بتشجيع منه، حتى بلغ معدل المستفيدين من برامجها ومناهجها 800 إلى 1000 منصر مع زوجاتهم، وتخرج منها أكثر من 150 ألف مبشر منذ سنة 2001. وقال هذا الواعظ سنة 1948: «إن أشد ما يهدد المسيحية الإنجيلية ثلاثة أخطار، الشيوعية والكاثوليكية الرومانية والإسلام»، لكنه في شتنبر 2001، اختفى الخطران الأول والثاني، وبقي الثالث، وهو ما أكده في موعظة 11 شتنبر، وذلك ما يعني أن الرجل منخرط في توجيه السياسة الخارجية الأمريكية تجاه العالم كله، والعالم الإسلامي على الخصوص. حالة بيلي، حجة على انتصار الدين الأمريكي على الحداثة الأوروبية، وبرهان على عودة الدين إلى صدارة التوجيه. كما يكشف خطورة استغلال الدين في إذكاء الحروب وإشعال الحروب باسم الأنبياء والرسل، وهم أبعد الناس عمن يخطب باسمهم ويعظ نيابة عنهم، ولو قام هؤلاء المبعوثون بالسعادة إلى الناس لكانوا أشد الناس خصومة لتزييف الوحي والتلاعب به. إنما الدين روح متخففة من أثقال الأرض محلقة في معارج السماء، متدفقة بالصفح الجميل والخلق النبيل، معترفة باختلاف الناس ولو كانوا خصوما ومخالفين، أما «المبشرون» و»الوعاظ» المزيفون، وما أكثرهم في الأديان السماوية والأرضية، فبعيدون بعدا مبينا عن الله، وإن هم إلا كاذبون. ولن يختفي هؤلاء إلا إذا جاء المبشرون حقا.