في الذكرى الثانية والستين لقيام دولة إسرائيل وطرد الفلسطينيين من ديارهم، ما زالت إسرائيل تذكرنا بنفسها، فقد أورد موقع قناة «الجزيرة» الإلكتروني، يوم الرابع من شهر مايو الجاري، نقلا عن مؤسسة «التضامن الدولي لحقوق الإنسان»، أنه خلال شهر أبريل الماضي، قتلت إسرائيل أحد عشر فلسطينيا، خمسة في غزة وستة في الضفة. وقبل أن أكمل هذا المقال، أرجو أن يسمح لي القارئ بأن أذكر أسماءهم وأعمارهم وظروف مقتل كل منهم، لأن فيها معنى يصعب إغفاله: في غزة استشهد كل من مروان الجربة، وعمره خمسة وعشرون عاما، ووائل أبوجلالة وثالث مجهول الهوية في اشتباك مسلح بمنطقة جباليا بعد توغل لقوات الاحتلال فيها، أي أن الثلاثة كانوا مشتبكين مع جنود العدو. ثم استشهد أيضا محمد جمعة سليم، وعمره أربعة وعشرون عاما، من حي الشجاعية في قصف إسرائيلي على مخيم جباليا، واستشهد أحمد سليمان سالم، من حي الشجاعية كذلك، حين أطلق جيش الاحتلال النار عليه لمشاركته في مسيرة أقيمت احتجاجا على الحزام الأمني في قطاع غزة، كان عمره تسعة عشر عاما. أما في الضفة الغربية فقد قتلت إسرائيل ستة شهداء هم الطفلة ماسة علي حسين فقهاء، ولها ستة أعوام، وأختها جَنَى علي حسين فقهاء، ولها خمسة أعوام، من بلدة طوباس القريبة من جنين. قتل جيش الدفاع الإسرائيلي الطفلتين عندما صدمت سيارة جيب عسكرية بسرعة فائقة الجرار الزراعي الخاص بعائلة الشهيدتين الطفلتين، والسيارة العسكرية الإسرائيلية صدمت الجرار الزراعي الفلسطيني من الخلف فلم يستطع سائق الجرار تفاديها، وكانت الطفلتان على الجرار بصحبة بعض أهلهما، فقتلتا في الحال. واستشهدت الفتاة سمر سيف رضوان، ولها واحد وعشرون عاما، من قرية اللِبَّن الشرقية قرب نابلس، دهسها مستوطن وفرَّ، واستشهد محمد ضامن عبد الكريم عُلَيَّات، وله اثنان وستون عاما، من دير ضعيف قرب جنين، بنوبة قلبية لطول الانتظار على حاجز الحمرا العسكري قرب طوباس أثناء توجهه إلى أريحا، حيث كان ينوي الخروج إلى الأردن لزيارة بعض أهله هناك، واستشهد الأسير رائد أبو حماد، وله سبعة وعشرون عاما، من العيزرية قرب القدس، في زنزانة انفرادية قضى فيها عاما ونصف العام في سجن بئر سبع، واستشهد إسماعيل علي السويطي، وله خمسة وأربعون عاما من قرية بيت عوا قرب الخليل، حاصره جيش الاحتلال في بيته وهدمه. هل لاحظ القارئ أمرا غريبا؟ إن الشهداء في غزة كانوا كلهم شبابا وقتلوا وهم يقاومون الجيش الإسرائيلي بطريقة أو بأخرى، فقد استشهد ثلاثة منهم في اشتباك مسلح، والرابع في مظاهرة احتجاج، والخامس في قصف على المخيم يتلوه أو يسبقه اشتباك أو محاولة للاشتباك. أما في الضفة، فالشهداء طفلتان لم تبلغا السابعة من العمر، وامرأة صغيرة السن، ورجل مسن مريض بالقلب، وأسير في زنزانة انفرادية، ورجل لم يغادر بيتا هدمه الجنود عليه. هذا والضفة تحت حكومة تنبذ العنف وتتبنى المفاوضات، وغزة تحت حكومة لا تنبذ العنف ولا تتبنى المفاوضات، لقد بلغت إسرائيل من قتل مسالميها ما لم تبلغه من قتل مقاوميها، وقد يقال إن هذه مصادفة ولا دلالة لها، ولكن ست مصادفات في شهر واحد كثير، تقتل فيه طفلتان ورجل عجوز وامرأة وأسير. لا أريد أن أقول إن مقاومة إسرائيل تؤدي إلى وقف القتل، إنما أريد أن أبين أن مسالمتها لا تؤدي إلى وقفه. واليوم في الذكرى الثانية والستين للنكبة، يكثر من يحاول إقناع الناس بترك مقاومة إسرائيل إلى مسالمتها محتجا بكثرة القتل، وتعب الناس، والقتل حقيقي والتعب كذلك، ولكن الراحة المفترضة في السلم لا تبدو حقيقية إطلاقا. إن أكثر العرب بدؤوا عملية السلام مع إسرائيل منذ تسعة عشر عاما إلا أشهر. لم يكن أحد من الذاهبين إلى مؤتمر مدريد يزعم أن المفاوضات ستحرر البلاد، ولكنهم زعموا لنا ووعدونا بأن المفاوضات ضرورية أساسا لوقف القتل ولوقف الاستيطان. وأذكر أن الخطاب السياسي وقتها كان يتركز حول هذين المحورين، فكان يقال لنا إننا لو تأخرنا في المفاوضات فسوف تبتلع المستوطنات ما تبقى من الأرض في كل من الضفة وغزةوالقدس، وكان يقال لنا إن الناس في فلسطين قد تعبوا من طول المواجهة، وإن المفاوضات ستتيح فرصا للرخاء الاقتصادي. ونحن في غنى عن ذكر أن العكس تماما هو الذي تحقق، فزادت المستوطنات ضعفين وقدر كل من البنك الدولي وصندوق النقد أن مستوى المعيشة ودخل الفلسطينيين أصبح أسوأ بكثير بعد إقامة السلطة الوطنية عما كان عليه قبلها. وكان يقال إن السبب في ذلك هو أن الفلسطينيين لم يكونوا كلهم جادين في عملية السلام، حيث قام بعضهم بهجمات متتالية على إسرائيل توقفت المفاوضات على إثرها، وإن ما حدث ويحدث لهم هو عقاب ذلك وعقباه. ولكن منذ بضع سنين انفصل الفلسطينيون الراغبون في السلام عن الفلسطينيين الراغبين عنه، ولا يمكن أن يشكك أحد في أن الحكومة الفلسطينية في الضفة الغربية جادة في طلب السلم، وأنها جادة أكثر في رفض الحرب، وبالرغم من ذلك، فإن عقاب إسرائيل يطولها هي، فالاستيطان في الضفة لا في غزة، والقتل في كليهما، وفي الشهر الماضي كان القتل في الضفة أكثر منه في غزة. إن إسرائيل لا تراعي حلفاءها فضلا عن مسالميها، لقد تجسسوا على الولاياتالمتحدة وهي من هي، أفنحن، أو المسالمون منا، أعز على إسرائيل منها؟ أوَلاَ يذكر الناس أننا خرجنا من بيروت عام اثنين وثمانين لكي يكفوا عن القتل فكأن القتل لم يبدأ إلا بعد خروجنا، وصور الجثث المكومة في أزقة صبرا وشاتيلا موجودة لمن شاء أن يتأملها مرة أخرى. إن هناك بعض الأصوات التي تطلب الانتظار لبضع سنين أخرى لإعطاء السلام فرصة، والاستيطان والقتل والفقر مستمر كله، والله مع الصابرين. لكن ألا يجدر أن يبدأ حوار فلسطيني عن خطة بديلة إذا ما فشلت سياسة الانتظار هذه؟ إن انهيار عملية السلام في الضفة لا بد أن يؤدي إلى مواجهة عسكرية، على الأقل هذا ما يقوله لنا المفاوضون، قالوا إن السلام ضرورة لأن الحرب بديله الوحيد، وعندما وقعت الحرب في غزة جعلها بعضهم دليلا على صحة قوله إن من لا يسالم يلق من إسرائيل حربا. فالآن يقولون إن السلام ما لم ينجح بعد سنتين فإنه لن ينجح، فمن حقنا أن نسألهم: إذا توصلتم إلى قناعة، بعد سنتين أو بعد ثلاث أو بعد عشر، بأن المفاوضات لن تعيد البلاد، فماذا أعددتم للحرب؟ فالضفة ليست مجهزة لمواجهة كهذه، بل إن أي تجهيزات إن وجدت فككت كجزء من سياسة الاندفاع نحو السلم المذكورة. والقائمون على الأمر في الضفة موظفون دوليون معروفون بقدرتهم على الإدارة والتخطيط، فإن مرت السنتان أو الثلاث ولم يتوقف الاستيطان والقتل والفقر، فما عندهم؟ ربما يحسنون صنعا لو حفروا بعض الملاجئ المضادة للقنابل لحماية المدنيين على الأقل. لا أريد من هذا المقال الهجوم على أحد ولكنني أسأل، ومن حقي أن أسأل، ماذا أعددتم لحمايتنا، تطلبون منا أن نطيع شرطي المرور في شوارع رام الله وأن ندفع الضرائب، والناس يطيعون من يقدر أن يحميهم، بل هم لا يطيعونه إلا لأنه قادر أو على الأقل راغب أو يحاول أن يحميهم، وواجب كل قيادة أن تحمي شعبها، وأن تحتاط لما يمكن أن يكون. فإذا كان الاستيطان والقتل مستمرين، وإذا كانت إسرائيل ترحل عشرة آلاف فلسطيني من الضفة الغربية، لا غزة، وإذا كنا نقول إن السلام إن لم ينجح في سنتين فلن ينجح، وإذا كنا جمعنا سلاحنا ووضعنا من يحملونه في الأحباس، ولم نحفر أنفاقا ولا ملاجئ، ولا دربنا أحدا يقاتل، فماذا لدينا لنضمن أن نكبة أخرى كنكبة عام ثمانية وأربعين لن تحصل؟ ضمانات أمريكية كتلك التي أخذناها في بيروت؟ أم حسن نوايا إسرائيل كتلك التي نراها في عيون شهداء الشهر الماضي الستة وتصريحات أفيجدور ليبرمان؟ إن صبرا وشاتيلا، ودير ياسين، وكل مذبحة عشناها في الحرب والسلم تطلب الكلمة.