من غير الوارد أن ينتج عن الجدل الذي سيدور في البرلمان بين المعارضة والأغلبية، في ضوء تصريح الوزير الأول عباس الفاسي، تغيير في المواقع أو المواقف. والسبب في ذلك أن المواجهة بين الحكومة والمعارضة لن تخرج عن نطاق القيام بتمارين رياضية، استعدادا لجولات قادمة حددت سلفا في انتخابات 2010. كان بالإمكان أن يتحول الجدل إلى لحظة سياسية قوية، قد لا تعني بالضرورة الإطاحة بحكومة الفاسي، لأن تقديم ملتمس الرقابة، حتى إذا توفرت له الظروف المناسبة المرتبطة بالإرادة السياسية لأحزاب المعارضة، فإنه لن يقود بالضرورة إلى عزل الحكومة. وهناك سابقة كان بطلها وزير أول سابق فك ارتباطه بحزب الاستقلال، يدعى عز الدين العراقي. ففي عام 1990 عقدين قبل اليوم وفي شهر ماي تحديدا، قدمت الفرق النيابية لأحزاب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية ومنظمة العمل الديمقراطي ملتمس رقابة، استندت فيه إلى الفصل 75 من دستور 1972 الذي يسمح لمجلس النواب ب«أن يعارض مواصلة الحكومة تحمل مسؤولياتها» في ضوء توقيع رُبع أعضاء المجلس، غير أن التصويت على ذلك الملتمس لم يحظ بالأغلبية التي تجعله ساري المفعول. الذين تابعوا وقائع تلك المواجهة بين حكومة العراقي وأحزاب المعارضة أدركوا منذ البداية أن الأمر ليس صدفة، وأنه ستكون له تداعيات، ليس أقلها أن الملك الراحل الحسن الثاني حين سئل يوما عن إمكانية سحب الثقة من الحكومة، رد بالقول: «لاشيء يحول دون تنفيذ بنود الدستور» وفهم من كلامه أنه ما دام ملتمس الرقابة سيندرج في إطار الدستور، فلا مانع من استعماله. بعد أقل من أربع سنوات على ذلك الحدث، انطلق مسلسل مشاورات ضمن ما عرف بالإعداد للتناوب، وصادف أن تعديل دستور 1996 فتح الباب على مصراعيه أمام أحزاب المعارضة. فيما لم يعد الكلام اليوم من طرف أحزاب الائتلاف الحكومي، وتحديدا الاتحاد الاشتراكي، يعرض للإصلاحات الدستورية، بل الإصلاحات السياسية، وفي مقابل ذلك، اختلف كلام المعارضة الحالية، ولو أن حزب «الأصالة والمعاصرة» كان يرغب في الانتقال إلى السرعة القصوى في مواجهة حكومة الفاسي، لكنه لم يفلح في إعداد الأجواء المناسبة لذلك. المعارضة أيام الاتحاد الاشتراكي والاستقلال والتقدم والاشتراكية ومنظمة العمل الديمقراطي كانت تتحدث بخطاب واحد، يتباعد أحيانا من الناحية الإيديولوجية، لكنه يلتقي في «التنكيل» بالحكومات المتعاقبة. وعلى عكس ذلك، فإن المعارضة إن صح تصنيفها وتوزيعها بين «العدالة والتنمية» و«الأصالة والمعاصرة»، مع استثناء «الاتحاد الدستوري» الذي يشارك تجمع الأحرار تحالفا ضد الطبيعة، لا تتحدث بصوت واحد، إن لم نقل إنها تعارض بعضها في المرجعيات أكثر مما تعارض الحكومة. بسبب هذا التناقض وغيره من الملابسات المحيطة بالمشهد الحزبي لم تقدر المعارضة على أن تقلب الطاولة في وجه الحكومة، ولو من خلال طرح ملتمس سحب ثقة قد لا يحقق أهدافه السعيدة. وهذا ما يطرح إشكاليات جديدة حول انعدام التوازن بين المعارضة والأغلبية. ففي الوقت الذي استطاعت المعارضة السابقة أن تضمن لنفسها حضورا وازنا أهلها بعد سنوات من الصراع لتحتل الواجهة الحكومية، لم تفلح المعارضة الحالية في أن تؤكد ضرورتها كفاعل محوري في ضبط إيقاع العمل السياسي. ثمة من يذهب إلى أن تغيير الأدوار لم يواكبه تغيير في المفاهيم، لأن المعارضة الحالية لا تستطيع أن تناهض خيارات كانت تنفذها يوم كانت في الحكومة، على الأقل من الناحية النظرية، طالما أن تلك الخيارات ظلت هي نفسها وأحيطت بمساحيق تجميلية، من قبيل أوضاع حقوق الإنسان وإنصاف المرأة إلى غير ذلك من الإجراءات. وثمة من يذهب إلى أن أحزاب الإدارة لم تتمرس على المعارضة حتى يصبح لها رصيدا غنيا يمكن أن تغرف منه حين تنقلب الأدوار. غير أن الصورة لا تكاد تنطبق كليا على حزب مثل «العدالة والتنمية»، الذي كان من الصدف أن ميلاده كفصيل من الحركة الشعبية الدستورية وتيارات وتنظيمات إسلامية، تزامن وفراغ مقاعد المعارضة، لذلك فقد وجد نفسه بعد، أقل من عامين انطبعا بمساندة حكومة عبد الرحمن اليوسفي، مضطرا لأن يعارض الحكومة، مما ساعد في ترقيع أعداد مقاعد النيابية في الاستحقاقات المتوالية. والحال أن حزب «الأصالة والمعاصرة»، الذي يصطف اليوم في المعارضة، كان بدوره مساندا لحكومة عباس الفاسي. لا لكونها تشكلت قبل الإعلان عن وجوده فقط، ولكن لأنها تحمل نفس المشروع الذي يبشر به، مع اختلاف في التفاصيل. ولم يكن مفهوما بالنسبة للوزير الأول عباس الفاسي ولأحزاب الائتلاف الحكومي، كيف أن «البام» انتقل فجأة إلى المعارضة عشية انتخابات البلديات. لكن لا يزال أحد أعضاء مكتبه الوطني عضوا في حكومة الفاسي تحت غطاء «تجميد عضويته». ما من شك في أن النقاش، الذي سيدور حول تصريح الوزير الأول سيحدد المواقع أكثر، وخصوصا بالنسبة لحزب «الأصالة والمعاصرة» الذي أعلن عن تصعيد المواجهة ضد الحكومة. وستكون الفرصة المواتية لتوضيح مجالات معارضته، إن كانت تخص البرامج ومواعيد الإنجازات أم أنها ذات طبيعة سياسوية تروم التموقع في خريطة غير مكتملة الملامح. أما «العدالة والتنمية»، فإن مواقعه تبدو أقرب إلى الاستمرارية في نطاق تعايش الممكن وليس المستحيل. إلى الآن لازالت أشواط اللعب في بداية مرحلتها الثانية. لكن ضربات الجزاء التي لا تتطلب أكثر من إتقان فن تصيد الفرص الغائب الأكبر عن ساحة اللعبة.