موت السياسيين والمسؤولين المهمين ليس مسألة جدية. فباستثناء أقرب المقربين إلى الأموات، فإن الجنازات مجرد مناسبات للقاءات والتصالحات وعقد الاتفاقيات، أو حتى إبرام الصفقات السياسية والاقتصادية. الغريب أن تحول الجنائز إلى مؤتمرات مسألة يتميز بها العرب أكثر من غيرهم من الأمم. ففي كثير من جنازات مسؤولين غربيين، نرى أن هناك احتراما أكبر للميت ولطقوس الجنائز، كما أن وسائل الإعلام الغربية تتحفظ كثيرا في أمر تحويل الجنازات إلى إثارة سياسية، أما عند العرب فإن الميت يتحول إلى مجرد جثة ينبغي التعجيل برميها في أقرب قبر حتى يتفرغ المشيعون لعقد لقاءاتهم الثنائية والثلاثية وتحويل الجنازة إلى مؤتمر قمة. وفي كثير من الأحيان، يكون من الصعب عقد مؤتمر أو لقاء بين المسؤولين العرب، وعندما يموت أحدهم تتحول جنازته إلى مؤتمر. هكذا، يتحول الميت إلى مجرد قنطرة يعبر فوقها الآخرون نحو مصالحهم. عندما يموت رؤساء الدول العرب، تحدث لقاءات من مستوى عالمي. يأتي أشخاص متخاصمون ويتصالحون، وقد يأتي أشخاص متصالحون ويتخاصمون، وتتحول الصفوف الخلفية والأمامية للجنازة إلى حلبة للقاءات ومصافحات تصبح مواد مثيرة في وسائل الإعلام. وعندما مات الرئيس السوري حافظ الأسد، فإن جنازته تحولت إلى ما يشبه مؤتمرا دوليا حول الشرق الأوسط وقضية السلام. وعندما رحل العاهل الأردني الملك حسين، فإن جنازته انقسمت إلى شقين: مؤتمر دولي حول فلسطين، ومؤتمر داخلي أردني حول خلافته، خصوصا بعد الجدل الذي أثاره إعلان الملك حسين، في آخر أيام حياته، عزل أخيه من ولاية العهد وتعيين ابنه عبد الله. وهناك أمثلة أخرى كثيرة جدا تبين كيف أن موت مسؤول مهم لا يعني سوى انتقال السلطة من هذا إلى ذاك، لذلك فإن كثيرين يهتفون بعبارة «عاش الملك» للملك الجديد قبل أن يترحموا على الملك الراحل. إنها لعبة السلطة التي تظهر جلية أكثر خلال الموت. وعندما يموت شخص مهم على المستوى المحلي، يأتي إلى الجنازة زعماء أحزاب لم يلتقوا منذ مدة، وفي أحيان كثيرة يتم التقاط صور لزعماء متخاصمين وهم يحضنون بعضهم بالدموع، وطبعا فإن دموعهم تلك لا علاقة لها إطلاقا بالجنازة والحزن على الميت، بل إنها تتحول إلى دموع سياسية خالصة. هكذا، تصبح الجنائز مجرد لعبة سياسية وحزبية، ويتنافس الناس في تأويل وشرح لماذا وقف هذا المسؤول الحزبي إلى جانب ذاك، ولماذا قرر زعيم هذا الحزب الابتعاد عن ذلك الوزير، ولماذا أرسل المسؤول الفلاني نائبه إلى الجنازة عوض أن يأتي بنفسه. وبينما يكون الميت في طريقه إلى مصيره الأبدي لا يملك من أمره غير عمله، فإن مشيعيه يكونون في سهو كامل عن عبرة الموت. في جنازات الفنانين والمثقفين تحدث أشياء مماثلة.. يأتي أناس كثيرون، حتى ممن لم يلتقوا يوما بالميت، لكي يجعلوا من الجنازة مناسبة للظهور أو إبراز حسهم الإنساني، وكل ذلك من أجل كسب تعاطف الناس الذين سيرون الممثل أو المغني الفلاني وهو يذرف الدمع. وطبعا، فإنه ليست كل الدموع زائفة، لكن هناك أيضا الكثير من دموع التماسيح. هكذا تنتفي قيمة الموت، وعوض أن يكون الميت رسالة قوية إلى الآخرين ليفهموا أن مصير الجميع هو ذلك النعش الضيق وذلك القبر المظلم الموحش.. إلا من رحمة الله، يحصل العكس، ويفرض الأحياء سطوتهم على رهبة الموت. لهذه الأسباب صار الناس العاديون والبسطاء ينظرون إلى جنائز الناس المهمين وكأنها استعراض إعلامي، لذلك فإنهم يجلسون أمام شاشات التلفزيون لكي يتابعوا فصول الدفن وكأن ذلك فرجة، والخطأ في كل ذلك لا يتحمله الناس البسطاء، بل يتحمل وزره المسؤولون والناس الذين يعتبرون أنفسهم مهمين أكثر من الآخرين حتى في الموت. هناك تفسير آخر لما يحدث، وهو تفسير سياسي محض.. فالناس المهمون الذين يشكلون جزءا من نظام ما، ليسوا سوى قطع صغيرة في هذا النظام، وعندما تتيبس هذه القطع وتموت، فإن جسم النظام لا يقوم سوى بالتخلص منها ويستمر النظام حيا. مات فلان... عاش النظام.