يقدم الفنان المغربي محمد المليحي آخر أعماله التشكيلية الموسومة ب«مسارات» في رواق «لوفت آر» للفنون التشكيلية في الدارالبيضاء. وسيفتتح المعرض رسميا يوم الأربعاء 19 ماي 2010 على الساعة السابعة مساء ويستمر إلى غاية 26 يونيو المقبل
في تناسق جميل بين اللون والضوء، يعود المليحي ليمتح من بيئته البحرية المفعمة بالتموج، في تعبير شعري يجمع ما بين تموجات الجسد والماء، في صياغة هندسية فاتنة، تتدثر داخلها الحدود بين الروحي والجسدي وتتفاعل في الآن نفسه، للتأكيد على ترابطهما المقدس. تقول الناقدة والمؤرخة فاتن صفي الدين: «ليست هذه الموجة التي أصبحت توقيعه الفني المميز إلا شكلاً تجريدياً ذا دلالات رمزية أو إيمائية لمعادلة واحدة.. معادلة تتلخص في خلاصة رؤى الفنان للعالم، فالموجة عند محمد المليحي هي البحر، هي الطفولة على شاطئ المحيط، هي السفر والعودة، هي شهوة الحياة، وهي حكمة الدهر، هي الإيقاع في النغم، وهي السكينة والصخب، هي الشيء وضده»... ويشير الكاتب اللبناني شربل داغر إلى أن «أول ما يجذبك في لوحة المليحي هو هذا الشعور الملتبس، المتداخل، بين السكون والحركة: فأنت تخال، أحيانا، كما لو أنها لوحة متصلة، واحدة، موصول بعضها ببعض، حيث إن «الموجة» تتردد من شاطئ إلى آخر: الموجة عينها، وهي غيرها في كل مرة... وهو ما قد يصح في اللون، حيث إنه في لوحة المليحي يتعين في «عائلة»، في «مناخ»، من الألوان المشرقة، بل «الصارخة»، مما يوقظ العتمة على حين غفلة، مثل نور صاعق». ويضيف داغر: «هذا ما يلتبس في خيال الناظر العَجول، إذ إن لوحة المليحي تتعين في التحرك، في التبدل، في رواح ومجيء لا ينقطعان بين الأشكال، بما لا يسمح بتتبع سير خط واحد فيها. فالشكل فيه -الخط- يتلوى وينساب بما لا يقبل حسابات ولا توقعات: إنه تسربي الخط (كما في غبش الليل) عن شكله، مثل تسرب الرغبة عن مباهجها الغامضة. وفي ذلك لا يحسن الناظر إلى اللوحة معرفة ما إذا كان الخط شكلا أم رسما أم لونا، بل يمكن التساؤل: هل الشكل لون؟ هل اللون شكل؟ هل الشكل رسم؟ وهي أسئلة تقع في صلب ما يرسم، وفي صلب ما نرى: أي يتعين في كيان أبجدية التشكيل. وفي أبجدية يتداخل فيها ويتلابس خط الزخرفة الإسلامية أو خط «الزليج» المغربي مع خط الرسم في التصوير الغربي». إن الأشكال شبه الدائرية بفتنتها وسحرها وبريقها، وقيمها البصرية غير الممكن حصرها، تتحرك وتسكن وتتمركز وتستحوذ وتؤطر مجموعة من الأشكال تجتذبها وتستقطبها داخل أو خارج محيطها الفاتن، لإحداث التمايزات داخل فضاء اللوحة، ليضمن المليحي تنوعا بصريا، اعتمادا على تيمة تشكيلية بصرية، تنم عن بحث بصري متواصل، سمته المغايرة والتجاوز، تعتمد اللون كتنغيم حركي يندغم، بشكل سلس، في الأحجام الهندسية التي تنحو نحو التمايز والاختلاف. يقول بيرستاني، في مقاربة نقدية لأعمال المليحي: «يرتبط عمل المليحي بالفن الحركي -إلى حد ما- على مستوى الحركة أيضا، ذلك أن درجة التوهم بالحركة في لوحات المليحي تظهر بشكل يكاد يكون ملموسا، بناء على التكوينات الدينامية التي تؤثث بنية العمل وقوة الحركة التي تثيرها الوحدات المتموجة. إذا ربطنا «الموجة» بإحالاتها، كما صرح بذلك المليحي: الجسد (جسد المرأة)، اللهيب، الماء.. فإن كل هذه العناصر عناصر متحركة في حد ذاتها، وهي متموجة، راقصة، دائمة الحركة..». ويدهب الطاهر بن جلون في تقديمه لهذا المعرض بالقول إلى إن «للمليحي روافد جديدة: منافذ غير منتظَرة في المتخيل تخلصه من التقنية التقليدية، لكي يتجرأ على الذهاب إلى أقطار أخرى، أكثر مرونة، أكثر حلمية وكذا إيروسية.يتجاسر المليحي على التيه. يبتعد عن الظل. يرسم الأمواج بشكل مغاير وبطريقة أكثر شعورية: إنها أكثر دقة وأيضا أكثر جنونية. يحدد بجهد الانجراف. يتوالي شق بتخطيطات متكاملة. هذا هو جسد المرأة المنتزع من الاستيهامات. إن عمل المليحي رمز هائل للديمومة والرغبة. منذ مدة، ويده ونظرته ممتلئتان بورع جميل: إنها ألوان الحياة المحملة من طرف الطيور الطوافة وذكريات الطفولة التي تسكنه بثبات وعلى نحو طبيعي. هكذا تتداخل الألوان والأشكال في رسومات المليحي، مخترقة أبجديات الزخرفة الإسلامية وخطوط الأسندة البصرية الشعبية. ألسنا بصدد «تنافذ» تتعالق فيه وعبره العلامة واللمسة والتركيبة والمسافة اللونيبية؟.. أليس الفن عند المليحي ذهابا وإيابا بين الشكل واللاشكل؟». في هذا السياق يذهب يوسف فاروق، قائلا: «الأنثى موجودة كما البحر موجود، لكن ألا يعني ذلك أن التماهي معهما هو في حقيقته نوع من الغرق؟ فالرسوم لا تقول شيئا، وهي في حقيقتها تقول كل شيء، في لحظة إلهام بصري، تحيطنا الأنثى، مثلما كان يفعل البحر.. وفي الحالتين، فإن الصورة تكاد تكون غائبة، هناك ما نفكر في حضوره، لكننا نعيش طقسه، كما لو أنه موجود تماما، قبلنا وبعدنا سيكون موجودا بهيئته المقترحة، ولكن ما ينبغي أن نحذره في حالة محمد المليحي هو أن نلجأ إلى الترميز، ذلك لأن الرسام لا يهبنا رموزا بل خلاصات»... لقد تأثرت تجربة محمد المليحي بتنقلاته الجغرافية بين دراسته في مدريد بعد تطوان (1953- - 1955 ) وفي روما وباريس (1960-1961) وفي نيويورك (1962 - 1964)، إلى جانب انخراطه في عديد من المحترفات التكوينية واحتكاكه بكبار رواد الفن الإسلامي والغربي. عندما تسأله عن المنعطف الجديد لأعماله يجيبك على التو: «إنها امتداد نوعي لأعمالي التي مَشْهدتُ فيها الموجة كعنصر غرافيكي يوحي بالنار والماء والجسد... إلخ».