ألقى السيد عمرو موسى قبل أيام حجرا كبيرا في بركة الجامعة العربية الآسنة عندما أعلن عدم رغبته في البقاء في منصبه كأمين عام عندما تنتهي ولايته الثانية، في سبتمبر المقبل، الأمر الذي أعاد إحياء جدل قديم حول مدى أحقية مصر في احتكار استضافة المقر، واختيار الأمين العام من بين أبناء جلدتها. الجزائر كانت، وما زالت، الأعلى صوتا من بين قريناتها العربيات التي طالبت بكسر هذا الاحتكار المصري، و»تدوير» منصب الأمين العام، لأن الجامعة تمثل جميع الحكومات والدول، ولا يوجد نص في ميثاقها ينص على حصر هذا المنصب في أبناء دولة المقر. وزاد هذا الموقف الجزائر صلابة بعد تدهور العلاقات المصرية الجزائرية في أعقاب الأحداث المؤسفة التي نتجت عن المنافسة الكروية بين البلدين للوصول إلى نهائيات كأس العالم وما رافقها من حملات إعلامية متبادلة اتخذت طابعا أقرب اإلى الإسفاف والتجريح والألفاظ النابية والعنصرية في أحيان كثيرة. كثيرون أدلوا بدلوهم في هذه المسألة، لصالح هذا الطرف أو ذاك، بينما التزم البعض «الحياد» إيثارا للسلامة، ولكن معسكرين بدآ يطلان برأسيهما، الأول يطالب باختيار أمين عام غير مصري للجامعة تتزعمه الجزائر ويضم دولا مثل تونس وقطر وسورية، والثاني يتمسك ب»تمصير» هذا المنصب، باعتبار مصر الدولة الأكبر نفوذا وأهمية، بحكم دورها وحجمها وتاريخها. وتردد أن المملكة العربية السعودية اقترحت حلا وسطا بأن يتولى وزير خارجيتها الأمير سعود الفيصل هذا المنصب لفترة انتقالية تستمر عاما، لتنفيس الاحتقان وتطويق الخلاف، ولكن المملكة نفت أن تكون قد تقدمت بمثل هذا العرض الحل. لا بد من التسليم بأن فترتي رئاسة السيد عمرو موسى للجامعة كانتا مخيبتين للآمال، لأن الرجل لم يرتق إلى مستوى التوقعات الكبيرة التي كانت سائدة في الأوساط العربية على المستويين الرسمي والشعبي عندما تولى هذا المنصب خلفا للدكتور عصمت عبد المجيد. وربما يدافع الرجل عن نفسه بالقول إن الوضع العربي وما شهده ويشهده من انقسامات وأحداث جسيمة جعل مهمته أكثر صعوبة وتعقيدا، ولكن هذا ليس عذرا على الإطلاق، لأنه انحاز في بعض الأحيان إلى معسكر دون آخر، وخاصة دول «محور الاعتدال»، ولم ينجح مطلقا في تحديث الجامعة ومؤسساتها، وتبنى مشاريع وقرارات كشفت عن ارتجال غير مدروس مثل تعيين مفوضين للإعلام والثقافة وتأسيس البرلمان العربي، فأضاف مزيدا من البيرقراطية والتكلس إلى جامعة هي متكلسة أصلا تمثل «تكية» لجيش من الموظفين أغلبهم دبلوماسيون عرب سعوا إلى الوظيفة من أجل الكسب أو الراحة أو الاثنين معا، ناهيك عن تحول الجامعة كمؤسسة توظيف لأبناء المسؤولين الكبار في الدولة المصرية ودول عربية أخرى. نحن هنا لسنا بصدد محاسبة السيد موسى، فهو لم ينتخب من قبلنا على أساس برنامج سياسي أو أجندة عمل واضحة، ولكننا نرى أن من واجبنا مناقشة مسألة «التدوير» المثيرة للجدل حاليا، وهوية الأمين العام القادم، هذا إذا لم يكن إعلان السيد موسى عن عزمه على الاستقالة هو مجرد «بالون اختبار» للتهيئة مبكرا لحشد الجهود لإقناعه بالبقاء لفترة ثالثة. أولا: نحن مع بقاء مقر الجامعة في مصر، ومع استمرار النهج المتبع حاليا باختيار أمينها العام من مصر، لأن الخلاف حول هذه المسألة ليس مع مصر كبلد، وإنما مع سياسات نظام جمد دورها وأضعفه، وأضعف الأمة العربية برمتها من خلال ذلك. فعندما كانت مصر قوية رائدة تقود الأمة لمواجهة الأخطار التي تهددها، لم يتم مطلقا طرح مسألة «التدوير» هذه أو هوية وجنسية أمين عام الجامعة. ثانيا: عندما تخلت مصر الرسمية عن هذا الدور وشتتت الصف العربي بالصلح المنفرد مع إسرائيل، جرى نقل المقر إلى تونس، واختيار أمين عام منها (الشاذلي القليبي)، ولكن عندما تصالح العرب مع نظامها وغفروا له ذنب كامب ديفيد، قبلوا بعودة المياه إلى مجاريها، بتوجيهات أمريكية، ولمقتضيات الحرب العراقية الإيرانية، الأمر الذي كرس النهج المصري الرسمي في تحويل الجامعة إلى إدارة تابعة لوزارة الخارجية المصرية، حيث أصبح جميع الأمناء العامين وزراء خارجية سابقين. ثالثا: اعتماد مسألة «التدوير» ليس ضمانة للنجاح، فمنصب الأمين العام في مجلس التعاون الخليجي يخضع لمثل هذا المعيار، ولم يتحقق أي تقدم على مسيرة المجلس، بل ازدادت أوضاعه تدهورا على مدى الثلاثين عاما تقريبا منذ تأسيسه، والانقسامات داخله لا تقل خطورة عن نظيرتها في الجامعة العربية رغم التجانس الكبير بين أعضائه، أما الإنجازات فما زالت محدودة للغاية وأقل بكثير من التوقعات، فالعملة الخليجية ما زالت حلما، والتنقل بحرية ما زال يواجه عقبات واسألوا طابور الشاحنات الذي يطل برأسه بين حين وآخر على الحدود الإماراتية السعودية، وربما يفيد التذكير أيضا بأن منصب أمين عام منظمة المؤتمر الإسلامي، ومقرها جدة في السعودية، يتم تدويره بين الدول الإسلامية، فمن يسمع بالأمين العام الدكتور إحسان أوغلو، ومن يسمع بمنظمته، ومن يتذكر أي إنجاز لها. رابعا: لن يتغير حال الجامعة إلا إذا تغير حال الأمة وأنظمتها، والأنظمة الحالية فاسدة متعفنة ديكتاتورية في معظمها. فالجامعة جامعة دول وأنظمة، ولهذا لا أمل في إصلاحها في المستقبل القريب، وربما هذا ما يفسر توجه السيد عمرو موسى إلى اختراع «رابطة دول الجوار»، لتكون بديلا أو مكملا للجامعة، أي أنه يريد كنس قمامتها تحت سجاد هذا التكتل الجديد، وتصدير الأزمات العربية إليه. ما نريد قوله، وباختصار شديد، أن ما يمكن فعله حاليا هو تقليص الخسائر والأضرار بقدر الإمكان، فالمشكلة لم تكن مطلقا في جنسية الأمين العام ومصريته على وجه التحديد، وإنما في طريقة اختياره والإصرار من قبل الحكومة المصرية على أن تحيل وزراء خارجيتها على المعاش في الجامعة، لإبعادهم أولا وإغلاق الباب أمام طموحاتهم إلى المنافسة على الرئاسة (حالة عمرو موسى) أو جمع ثروات وامتيازات وقضاء فترة تقاعد مريحة (حالة الدكتور عصمت عبد المجيد). يجب الحفاظ على عروبة مصر من خلال بقاء الجامعة فيها، واستمرار تولي أمانتها العامة من قبل أحد مواطنيها، لأن هذه العروبة مهددة، ما هو مطلوب هو تغيير آليات الاختيار، فهناك كفاءات مصرية كثيرة يمكن أن تتولى عملية تحديث الجامعة وتحريرها من بيروقراطيتها الراهنة لا بد من البحث عنها، ومنع النظام الحالي من مواصلة «سنته» في تصدير المتقاعدين إليها. بمعنى آخر، مطلوبة شخصية مصرية مستقلة كفأة من خارج النظام المصري الحالي المتحلل والمرفوض شعبيا، ونحذر مسبقا من عدم السماح لشخص مثل السيد أحمد أبو الغيط، وزير الخارجية الحالي، من تولي هذا المنصب العربي، فشخص يريد تحطيم أرجل المحاصرين من أبناء قطاع غزة إذا ما عبروا الحدود المصرية بحثا عن لقمة خبز، لا يستحق أن يكون مصريا أساسا، ولا يؤتمن على منصب يفترض أن يمثل صاحبه العرب ويعمل على تعزيز أواصر القربى بينهم ويدافع عن قضاياهم. النظام المصري الحالي ليس مخلدا، وهو زائل لا محالة ورئيسه لا يمكن أن يعمر ما عمره سيدنا آدم، أي ألف عام، ولهذا علينا أن نفكر دائما بمصر كقاطرة أسياسية للأمة، وأن نكظم غيظنا تجاه ما يجري فيها من مبكيات ونكسات كانت آخرها تهنئة إسرائيل في عيد اغتصابها فلسطيننا أو قتل صيادي غزة الجوعى الباحثين عن سمكة صغيرة لإطعام صغارهم الجوعى، في بحر مصري هجره صيادوه إلى بحور أخرى بعيدة بعد أن هجرته أسماكه أيضا. نريد أمينا عاما للجامعة يتوفر فيه الحد الأدنى من العروبة والكرامة، ولا يكون صورة لزعماء عرب تخلى الكثير منهم عن هذه الأبجديات. ويقيننا أن هناك شرفاء في مصر أرض الكنانة ينطبق عليهم هذا الوصف.