مع حلول شهر رمضان الكريم، يجدد المغاربة موعدهم مع عدد من الطقوس الروحية العريقة، ومن أبرزها أمسيات الإنشاد، والسماع الصوفي، والمديح النبوي، التي يتم إحياؤها عبر ربوع المملكة في إطار مهرجانات وحفلات خاصة. ويتميز فن الإنشاد في المغرب بتنوع أساليبه ومواضيعه، فهناك من ينشد هذا المديح بالطريقة الشرقية، وهناك من ينشده بالطريقة المغربية الأصيلة، إما في قالب يطبعه الملحون، أو الأندلسي، أو السماع الصوفي، أو في إطار المزج بين كل هذه الفنون. للتعريف أكثر بفن الإنشاد في بلدنا، تجري "الصحراء المغربية"، طيلة شهر رمضان، حوارات مع العديد من المنشدين المغاربة، لتسليط الضوء على مساراتهم الفنية وإبراز مشاركاتهم القيمة في المحافل والمسابقات الدولية التي تخص الإنشاد، والتي بوأت العديد منهم أعلى المراتب وأسماها.
متى كانت أولى بدايات هشام دينار في عالم السماع والمديح؟
كانت أولى بداياتي في عالم المديح والسماع برحاب الزوايا الصوفية بمدينة الصويرة، حيث كنت أحضر باستمرار لكل الجلسات اليومية والأسبوعية التي كانت تقام آنذاك، بجل الزوايا بالمدينة، التي تتلى خلالها أمداح نبوية وإنشاد قصيدتي البردة والهمزية بالصيغة المغربية الأصيلة وكذا تلاوة كتاب دلائل الخيرات، وكان عمري آنذاك، لا يتعدى الخمس سنوات، كما التحقت منذ نعومة أظافري بالمعهد الجماعي للموسيقى، وعند بلوغي سن السادسة عشر من عمري قررت أن أبدأ جولات لطلب العلم والبحث عن الصنائع والذخائر، التي يمتاز بها فن المديح والسماع، فبدأت أجوب كل مناطق المغرب، فكان لي شرف ملاقاة عدة شيوخ من أرباب هذا الفن، فأخذت بالنهل من ينابيعه مباشرة، وأذكر على سبيل المثال، شيخي وقدوتي الراحل بكرم الله الشريف مولاي عبد الغني الكتاني، وكذا شيخي الراحل بكرم الله الحاج عبد المجيد الصويري، الذي افتقدناه خلال الأيام القليلة الماضية، وكذلك الشيخ الحاج علي الرباحي والحاج محمد عز الدين والحاج محمد بنيس حفظهم الله، وفي سنة 2012 قمت بمعية مجموعة من الشباب الولوع تأسيس جمعية أطلقت عليها اسم "جمعية شباب الفن الأصيل"، ثم بدأنا الاشتغال على الحفاظ على فني السماع والمديح ونشرها وتلقينها للناشئة والشباب، فضلا عن المشاركة في عدة مهرجانات وملتقيات بكافة ربوع الوطن وسهرات وتسجيلات ولقاءات بمختلف المحطات الإذاعية والقنوات التلفزية.
حاولت المزج بين المقامات الشرقية والطبوع والنوبات الأندلسية، أين يجد هشام نفسه؟
كما هو معلوم، الموسيقى الأندلسية واحدة من الإمدادات والروافد التي تفرعت من الموسيقى العربية بمفهومها العام، فالمزج ما بين المقامات الشرقية والطبوع والنوبات الأندلسية شيء معلوم ومتداول في أوساط مولعي وممارسي هذه الفنون، خصوصا من خلال الموال الشرقي الذي أصبح يستعمل كثيرا بمقامات شرقية، لكن يبقى له الطابع والشكل نفسهما من حيث الصوت الانسيابي للموال المغربي، إلا أنني أفضل عدم إقحام طبوع ومقامات شرقية في موسيقانا العريقة والغنية، حتى لا تذوب حضارتنا وتنصهر في حضارات أخرى بدعوى التغيير والتجديد والانفتاح، وأجد نفسي في الطابع المغربي الأصيل الذي يحتل مكانة خاصة في التراث المغربي ويحظى باحترام كبير لدى المغاربة لامتزاجه (دون أنواع الموسيقى الأخرى) أي الطابع الديني بالطابع الفني ليعطي أنغاما خاصة.
بحكم انتمائكم لمدينة الصويرة المعروفة بالتلاقح بين المكون العربي والأمازيغي والعبري الذي يجسده اليهود المغاربة، هل تستطيع الموسيقى الروحية أن تجسد لوعة الانتماء لكافة مكونات المجتمع الصويري بما فيهم العبري عبر "طبع الشكوري"؟
بالطبع، فبالمقارنة مع مجموعة من المدن الأخرى، تنفرد مدينة الصويرة بميزة خاصة وهي التعايش والتلاقح بين مجموعة من المكونات، منها العربي والأمازيغي والعبري، فالتعدد الثقافي والاثني والعرقي، الذي يميز هذه المدينة يتجسد على أرض الواقع من الناحية الموسيقية بتعدد الأجناس الموسيقية، فنجد مجموعة من الألوان والأنماط، التي لها تأثيرات ثقافية مرتبطة بهذه الأجناس، وبالتالي فالإرث الحضاري والتاريخي للصويرة ينعكس بشكل جلي في الموسيقى ويتضح من خلال هذا التعدد، فلطالما كانت الموسيقى هي التي تعبر عن تعدد الأجناس البشرية وبمثابة سفير للشعوب والثقافات ليس بمدينة الصويرة فحسب، بل في كافة بلدان العالم، وإذا تكلمنا عن مدينة الصويرة فنجد أن هذا البعد الثقافي والحضاري يتجسد بها لدرجة أنه يمكننا أن نؤرخ لجانب مهم من تاريخ المدينة عن طريق الموسيقى. والموسيقى عامة والروحية منها خاصة، تعتبر لغة مشتركة بين مجموعة من المكونات لما لها من مساهمة قيمة في كبح جماح التشدد والتطرف، ونشر قيم المحبة والتعايش والسلام والجمع بين عدة ثقافات لتعيش في إطار روحاني وتأملي، تقرب محبيها من جوهر الأديان، المتمثل في سمو الأخلاق وقيم التسامح وقبول المختلف، بعيدا عن أي انحرافات عقائدية، وبالتالي فهذه الموسيقى النبيلة يمكنها تجسيد لوعة الانتماء لكافة مكونات المجتمع، بما فيهم العبري والعربي والأمازيغي.
تشغل مسؤولية مقدم الزاوية القادرية، هل تجد أن الانتماء لزاوية صوفية مسألة أساسية لكل ممتهني السماع، أم يمكن للمعاهد الموسيقية أن تخرج لنا منشدين؟
الزوايا الصوفية عبارة عن مدارس خاصة لتلقين علوم فن المديح والسماع، ويرجع لها الفضل الكبير في صيانته والمحافظة عليه ونقله إلى الشباب والناشئة، وفق أصوله ومقتضياته، وهذا ما دأبنا على القيام به منذ تولينا مهمة الإشراف على الزاوية القادرية بالصويرة، إذ أننا أخذنا على عاتقنا تلقين مبادئ المديح والسماع للشباب والأطفال، وفق أصوله الأخلاقية والأدبية والطربية. إن الانتماء لإحدى الزوايا مسألة أساسية وضرورة حتمية لكل ممارس لهذا الفن، فلا مجال للمقارنة بين منشدين ومسمعين ترعرعوا وتربوا داخل الزاوية وآخرين تعلموا عن طريق الاستماع للأشرطة والتسجيلات الصوتية، أما في ما يخص مسألة المعاهد الموسيقية فهي تأتي كمرحلة تكميلية بعد تخرج المنشد من الزاوية ومعرفته التامة بمبادئ هذا الفن، وتدخلها في الوقت الراهن هو ضرورة ملحة لكي يتم ضبط أسسه العلمية الموسيقية، وتوثيق متونه، وتجديد آفاقه الشعرية والإيقاعية وفق مناهج ومقررات علمية حديثة.