مع حلول شهر رمضان الكريم، يجدد المغاربة موعدهم مع عدد من الطقوس الروحية العريقة، ومن أبرزها أمسيات الإنشاد، والسماع الصوفي، والمديح النبوي، التي يتم إحياؤها عبر ربوع المملكة في إطار مهرجانات وحفلات خاصة. ويتميز فن الإنشاد في المغرب بتنوع أساليبه ومواضيعه، فهناك من ينشد هذا المديح بالطريقة الشرقية، وهناك من ينشده بالطريقة المغربية الأصيلة، إما في قالب يطبعه الملحون، أو الأندلسي، أو السماع الصوفي، أو في إطار المزج بين كل هذه الفنون. للتعريف أكثر بفن الإنشاد في بلدنا، تجري "الصحراء المغربية"، طيلة شهر رمضان، حوارات مع العديد من المنشدين المغاربة، لتسليط الضوء على مساراتهم الفنية وإبراز مشاركاتهم القيمة في المحافل والمسابقات الدولية التي تخص الإنشاد، والتي بوأت العديد منهم أعلى المراتب وأسماها. هناك انفتاح ملحوظ على فن الإنشاد في الإعلام طوال العقدين الأخيرين - متى كانت البدايات للمنشد محمد التهامي الحراق؟
عمري الفني يكافئ عمري، ومسيرتي ابتدأت لما ازددت في وسط روحي ديني يشكل فيه الذكر والسماع والمديح النبوي عنصرا وجوديا، ومكونا عضويا؛ فالأب كان فقيها وإماما دائم الارتياد على محافل القرآن والذكر والمديح، والوالدة أيضا كان هذا دأبها رحمهما الله، حتى إنها كانت تؤم هذه المحافل للاستماع وتغذية جنينها الذي كنته بهذه الروحانية. وحين ازددت بمدينة وزان في بداية سبعينيات القرن الماضي كانت "جمعية الصفا لمدح المصطفى" قد ظهرت عام 1969، ومن ثمة نشأت في أسرة ذاكرة، وتربيت في "جمعية" مع زمرةٍ من الشيوخ، في صدارتهم أخي وأستاذي الشيخ سيدي أحمد الحراق، ولما انتقلت إلى الرباط للدراسة الجامعية خلال بداية التسعينيات التقيت بشيخ المادحين والمسمعين بالمغرب، فريد وقته في هذا الفن، أستاذي سيدي عبد اللطيف بن منصور رحمه الله، الذي صاحبته وأخذت عنه على مدى عقدين من الزمن. وفي بداية الألفية الثالثة أسست رفقة بعض الأصدقاء "مجموعة الذاكرين" عام 2001، والتي أنتجت في إطارها جملة من الأعمال الفنية والعلمية والإعلامية.
- كيف تقيمون حضور هذا الفن في الإعلام العمومي؟
هناك انفتاح ملحوظ على هذا الفن في الإعلام طوال العقدين الأخيرين، سواء من خلال سهرات روحية أو برامج فنية، أو برامج تثقيفية صوفية، سواء في الإعلام السمعي أو الإعلام السمعي البصري، وهو ما يحتاج إلى التثمين والتحيين، بحيث وصلنا اليوم إلى ضرورة تجديد حضور هذا الفن في الإعلام يخرجه من الحضور المناسباتي إلى الحضور البنيوي في شبكة البرامج ليس فقط على إذاعة وقناة محمد السادس للقرآن الكريم، بل في سائر الإذاعات والقنوات؛ لأن هذا الفن يمتلك أبعادا روحية وأدبية وفلسفية وجمالية فنية وحضارية، نحتاجها اليوم لتجديد إسهام هذا الفن في تحقيق التمنيع الروحي للشباب المغربي من كل أشكال التدين المجافية للجمال أو للروحانية، والموقعة في براثنِ التشدد والأصولانية، وهو ما يقتضي الاهتمام بهذا الفن والإفادة منه أيضا في التعامل مع قضايا التعليم والطفولة والشباب والمرأة، وهو مفيد بل مثمر بشكل باهر في خدمة هذه الأبعاد تربويا وروحيا، متى ما أُحسِن التعامل معه وإخراج هذا التعاطي من التعامل الفولكلوري والطقوسي إلى التعامل الروحاني والجمالي والمعرفي.
- هل تعتبر أنه وجب على جميع المسمعين أن يتربوا داخل الزوايا حتى ينهالوا من زخم الطبوع والنوبات، أم أن المعاهد الموسيقية قادرة على تكوين مسمعين في المستوى؟
نعم للتكوين داخل المعاهد الموسيقية، ونعم للعمل الجمعوي المفيد في تطوير حضور هذا الفن في السياق الراهن للمجتمعات الحديثة، لكن تلك المعاهد وهذه الجمعيات لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن تقوم بأدوار الزاوية التي تجمع بين العلم والتربية الروحية، وفي سياقهما يتبلور الاهتمام الفني بالسماع؛ فالأنغام والطبوع والإيقاعات والأدوار والتلاحين، تستمد روحانيتها من السياق المذكور، وكل فصل لها هذه الروحانيةِ يوقعنا في ما أسميته بآفةِ الطقوسية.
- بصفتكم واحدا من ألمع مسمعي الزاوية الوزانية، ماهي القيمة المضافة التي تقدمها زاوية دار الضمانة على المستوى النغمي والأدبي، وما عنصر تفردها؟
لعل أهم ما يدين به جيلي من المسمعين الوزانيين هو العناية الخاصة التي حظينا بها في "جمعية الصفا لمدح المصطفى بوزان"، والتي كان من ثمراتها ظهور مدرسة سماعية هي مدرسة الولي الصالح أحد أقطاب شيوخ الزاوية الوزانية سيدي علي بن أحمد؛ ومزارهُ يمثل المدرسةَ التي تعلمنا فيها أصول هذا الفن. وتتميز "جمعية الصفا"، وبتوجيهٍ من شيخها سيدي أحمد الحراق، بدورها الكبير في توجيه الطلبة للجمع بين المعرفة والفن، بين الدراسة والإنشاد، بين العلم والأذواق، بحيث تخرج جملة من الجامعيين المنشدين، بل أنجز كثير منهم أبحاثا رائدة وغير مسبوقة في مجال المديح والسماع برحاب الجامعة منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، أشير هنا تمثيلا، وحسب الترتيب الزمني للطلبة الباحثين الأساتذة، إلى: علي الرباحي، ومحمد التهامي الحراق، ومراد الكواش، وعبد المالك العراقي، وأنور بقالي، وسناء بن سلطن، ويوسف المحمدي، وإلياس الخراط... هذا إذا اقتصرنا فقط على الطلبة الذين أجروا بحوثهم الجامعية في مجال المديح والسماع. على أن هذا الجمع بين العلم والفن أفضى إلى إعادةِ اكتشاف تراث دار الضمانة في هذا المجال، والعمل على إحيائه وتجديده وتحيينه، وهنا وجه التميز.