اشتهرت مدينة مراكش بعدة أسماء من بينها "سبعة رجال"، وارتبطت برجالاتها، الذين بصموا حياتها الدينية والروحية، وألهموا الكثير من الكتاب والأدباء وشعراء الملحون، من خلال حسهم الإنساني والأخلاقي، ما دفعنا إلى الالتفات لظاهرة هؤلاء الرجالات كغيرها من الأجانب، الذين عشقوا المدينة الهادئة والصاخبة معا، حيث الحركة لا تتوقف، مدينة الأثر والتراث مراكش، التي لا تغيب عنها الشمس، دخلت مهندسة الديكور السويسرية، سوزان بيدرمان، مراكش في يوم من أيام الربيع. كان ذلك بداية التسعينيات من القرن الماضي. المهمة التي أتت من أجلها، لم تكن سهلة، فالأمر يتعلق بأثر خلفه الأجداد، وهو "دار بلارج". هذه الدار التي استطاعت المهندسة السويسرية، أن تعيد لها ألقها، وأحيتها من جديد، بعدما كانت أثرا بعد عين. اقتنت الدار، وأعادت ترميمها بما ادخرته من أموال. قصة المهندسة سوزان بيدرمان مجنونة مراكش، لم تكن عادية في مدينة تهتم بالثقافة وفنون القول والفراجة. قصة لا توجد إلا في الأحلام، ارتبطت بالحلم ومنه انطلقت في مدينة أعادت لأبنائها مجدا ضائعا، وهو دار بلارج، التي أصبحت قبلة للسياحة الثقافية. وجدت بيدرمان نفسها مفتونة ومأخوذة بسحر المدينة الحمراء، بألوانها وأسواقها، إذ شعرت بانجذاب غريب نحو المدينة، من خلال عيون أطفالها المشعة بالحاجة إلى شيء ما، لذلك فكرت في أن تقوم بعمل ما لصالح المدينة وأطفالها. فكرت سوزان ، في بداية الأمر، في إنشاء دار للأيتام، ولما التقت سفير ألمانيا سابقا في المغرب، استقر، بدوره، بمراكش، بعد انتهاء مهامه الدبلوماسية، اقترح عليها التفكير في الاستثمار في الفن والثقافة، بعد أن أقنعها بأن هناك عطشا فنيا وثقافيا بالمدينة. وبعد أن أرشدها غويتسولو إلى "دار بلارج"، ستقتني سوزان البناية، قبل أن تقوم بترميمها وإصلاحها. ذابت المهندسة السويسرية، سوزان بيدرمان، في دروب وأزقة المدينة وآثارها التي تنتمي إلى حضارات مختلفة، انبهرت بجمال المدينة، وبناياتها الحمراء وأضوائها الخلابة، التي تسحر كل من سقطت أعينه على مفاتنها الساحرة، وازداد انبهارها بساحة "جامع الفنا "، التي أدهشت كل العيون وقربت القلوب وشغلت العقول، فالزائر لا يستطيع إغفال ساحة جامع الفنا، التي أعلنتها اليونيسكو موقعا حضاريا وثقافيا ذا شهرة عالمية. وجدت سوزان بيدرمان في مراكش أشهر الأسواق التقليدية، التي وصفتها ببورصة يومية نشيطة بامتياز لا تختلف في حركيتها عن أسواق دمشق وبغداد والقاهرة. إن سوق (السمارين) يشكل المعبر الرئيسي للسياح ليتبضعوا التذكارات النادرة ومختلف تحف الصناعة التقليدية المغربية الزاخرة بتشكيلاتها الفنية، التي لا حصر لإبداعاتها الحرفية والتي تعتمد في مادتها الخام على خشب العرعار. إنه أشبه بمعرض حافل بالبازارات التي تشبه بكنوزها مغارة (علي بابا) مفتوحة دائما لعرض منتوجات الصناعات التقليدية المجلوبة من كل تخوم المملكة. حملت سوزان كل أمانيها وأحلامها الكبيرة والصغيرة، وطافت كل دروب الحمراء، وكل أثر مهما صغر وعلا شأنه، فتملكها رجال مراكش الصلحاء، وزارتهم واحدا واحدا، ضريح القاضي عياض، والإمام الجزولي والإمام السوهيلي، وسيدي يوسف بن علي، وسيدي عبدالعزيز التباع، وسيدي عبدالله الغزواني، وأبوالعباس السبتي. لم تعد السويسرية المهندسة غريبة عن مدينة الحمراء، بعدما سخرت كل أموالها لكي لا ترحل اللقالق عن المدينة. تتكون "دار بلارج"، التي تعهدتها سوزان بيدرمان بالعناية والإشراف من بهو مساحته 200 متر مربع محاط بأربع قاعات كبيرة، ثلاث منها تستعمل كقاعات للعروض. أما الرابعة فمخصصة لاحتساء الشاي وللاستراحة واللقاءات. كما تحتوي على قبو يتكون من قاعتين تقام فيهما الورشات الفنية والموسيقية المفتوحة في وجه الأطفال وشباب أحياء المدينة. وهي ورشات مجانية وفضاءات لتلقين الممارسات الفنية التقليدية المحلية. نظمت الدار، على مدى السنوات الماضية، لقاءات ثقافية وأمسيات حكي وعروضا مسرحية وحفلات، يجري اختيار المناسبات والأعياد الدينية، مثل شهر رمضان، موعدا لها. ويتذكر الكاتب غويتيسولو، الذي فضل الاستقرار في مدينة مراكش، يوم افتتاح "مؤسسة دار بلارج لرعاية الثقافة"، أن أحد المسؤولين، على مستوى المجلس الجماعي للمدينة، تحدث لبعض مرافقيه، وكانوا في دردشة جانبية: "كان الأجدى أن تستغل هذه الدار كمرقص". جملة سقطت، مباشرة، في أذن سوزان بيدرمان إليوت، وبالحدة نفسها في أذن خوان غويتسولو. وفي تأبين المرأة التي أحبت مراكش حتى النخاع، وانتصرت للثقافة والفن، قالت مها المادي، المكلفة بإدارة الدار، بكثير من الأسف والدموع، إن المدينة الحمراء لم تلتفت إلى العمل الذي كانت تقوم به الراحلة سوزان بيدرمان، إلا بعد فوات الأوان. وحين لم تسعفها دموعها، خاطبت غويتسولو، قائلة: "أظن أن سوزان تحولت إلى لقلاق، و"دار بلارج" هي عش مفتوح أمام كل مثقف لبسته حكاية اللقالق، رمز الحرية والرغبة في معرفة العالم.