يعتبر ورش إصلاح الحقل الديني أحد الأوراش، التي تبرز بشكل جلي المقاربة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، من أجل ضمان تدبير جيد للشأن الديني يتماشى مع متطلبات العصر وينسجم تمام الانسجام مع ثوابت هوية المملكة، التي تشكلت على امتداد تاريخها العريق. فقد حرص صاحب الجلالة، أمير المؤمنين، منذ السنوات الأولى لتوليه العرش على تجديد الحقل الديني وضمان تأهيل المؤسسات الدينية والنهوض بأوضاع العلماء والأئمة والعاملين في الحقل الديني، في احترام تام للثوابت الدينية للمملكة وبما يتماشى مع متطلبات تطور المجتمع. وترتكز المقاربة التي أطلقها صاحب الجلالة في هذا المجال على ضرورة الحفاظ على المرجعية الدينية للمملكة المرتكزة على السنة، والمذهب المالكي، والعقيدة الأشعرية، والمحفزة على الاجتهاد، وفق مقاصد الشريعة السمحة، والاعتدال والوسطية والتسامح، بعيدا عن كل تشدد أو تطرف أو غلو. وفي هذا الاتجاه وحفاظا على هويته المتميزة بالوسطية والاعتدال والتسامح، وتحصينا له من نزعات التطرف، اعتمد المغرب، لتأهيل حقله الديني وتجديده، استراتيجية مندمجة وشمولية ومتعددة الأبعاد، تستند إلى ثلاثة أركان تتمثل في الركن المؤسسي، والركن التأطيري، وركن التربية الإسلامية الأصيلة. ووضع صاحب الجلالة أولى معالم إصلاح الحقل الديني في المغرب في خطاب ملكي يحدد تنظيم المجلس العلمي الأعلى (أبريل 2004)، مع أولوية رئيسية تتمثل في التشبث بالوحدة العقدية للأمة المتمثلة في المذهب المالكي. وعلاوة على المسؤولية التي يتولاها صاحب الجلالة، باعتباره أميرا للمؤمنين، القيم على الإمامة العليا، المؤسسة على روابط البيعة، بادر جلالته إلى إصلاح الحقل الديني، الذي يعتبر ورشا أساسيا، حرصا منه على ضمان النهوض بالحياة الدينية والحفاظ على الأمن الروحي للمواطنين. ويعتبر برنامج تأهيل الأئمة، الذي أعلن عنه صاحب الجلالة في شتنبر 2008 وأطلقه في السنة الموالية، إحدى أهم ركائز هذا الإصلاح. وتهدف هذه العملية التي تهم حوالي 45 ألف إمام إلى تأهيل الأئمة تأهيلا يمكنهم من الاضطلاع بمهمتهم على أكمل وجه، حتى يكون باستطاعتهم الإجابة عن الإشكاليات ذات الصلة بالدين، التي تواجه المواطنين. ويتم في إطار هذا البرنامج، الذي يدخل ضمن تفعيل ميثاق العلماء الذي أعلن عنه جلالة الملك في شتنبر 2004، برمجة حصتين شهريتين لمدة ثلاث ساعات ونصف الساعة، علما أن كل حصة من حصص التأهيل الديني تتضمن أربعة دروس تكوينية. وفي هذا الإطار، كان صاحب الجلالة الملك محمد السادس دعا المؤسسات الدينية، في رسالة وجهها إلى اللقاء الأول للعالمات والواعظات والمرشدات، الذي انعقد في يوليوز 2009، إلى" العمل على تجديد خطابها، والارتقاء بأدائها، ليواكب ما يشهده المجتمع المغربي من حركية، وما يعرفه من تطور فكري وثقافي، وما يعيشه العالم من تحولات متسارعة". وأكد جلالته أن "هذا البرنامج الطموح، الذي نتوخى منه تأطير وتأهيل الأئمة، من قبل أماثل علمائنا وعالماتنا، سيكون له أثره العميق وثماره الطيبة، في تجديد رسالة المسجد، والنهوض بدوره التربوي والتنويري". ويتجلى ورش إعادة هيكلة الحقل الديني أيضا على مستوى المجالس العلمية الإقليمية، التي انتقل عددها من 18 إلى 69 مجلسا في ظرف أربع سنوات، بالتوازي مع إحداث مجلس خاص بالمغاربة المقيمين بالخارج. ويهدف توسيع الهياكل الإقليمية للمجلس العلمي الأعلى إلى ضمان القرب من المواطنين والاستماع بشكل دائم لانتظاراتهم ومشاكلهم. وتتجلى المقاربة الرشيدة التي أطلقها صاحب الجلالة في الحقل الديني كذلك في المكانة البارزة التي منحت للعالمات والواعظات والمرشدات، في مجال تأطير الحياة الأسرية والتكفل بالقضايا المتعلقة بالمرأة. تمثل إصلاح المؤسسات الدينية، أيضا، في إعادة هيكلة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية حيث تم، بموجب ظهير، إحداث مجموعة من المديريات المكلفة بالتعليم العتيق، والمساجد، والشؤون الإسلامية، وتنصيب مناديب إقليميين للوزارة تتمثل مهمتهم في السهر على التدبير السليم للشأن الديني وتأهيل وتجديد مؤسسة الوقف، من أجل جعلها تتماشى مع المقاصد الاجتماعية وأهداف التضامن والإحسان لفائدة الفئات الفقيرة. وشمل الجهد التجديدي أيضا "الرابطة المحمدية للعلماء" التي صارت، بعد إعادة هيكلتها، مؤسسة ناجعة تعمل بتعاون مع المجالس العلمية، في كل ما يتصل بتدبير الشأن الديني، إضافة إلى دار الحديث الحسنية، التي أدخلت مواد تعليمية جديدة مثل مقارنة الأديان، واللغات الحية والقديمة، والعلوم الاجتماعية والاقتصادية. ولم يكن ورش تأهيل الحقل الديني ليكتمل دون أن يشمل الشق المتعلق بالمقررات الدراسية الإسلامية في مختلف المؤسسات، من أجل ضمان تكوين أكاديمي يستوجب معرفة متينة بتطورات الحياة المعاصرة ورهاناتها وإشكالياتها. وفي هذا الاتجاه، أعطى صاحب الجلالة الملك محمد السادس، توجيهاته السامية لتأهيل التعليم الأصيل ودور القرآن بهدف تعزيز دورها في التأطير الديني وتحصينها من كل تحريف يمكن أن يمس الهوية المغربية. وبالنظر لشمولية عملية الإصلاح وجسامة التحديات التي يتوجب رفعها، صار إسهام المرأة العالمة في تدبير الشأن الديني أمرا ضروريا، سواء أكانت عضوا من أعضاء المجالس العلمية أو بصفتها مرشدة دينية. وتعتبر الأفواج المتتالية التي تخرجت من مؤسسات تكوين المرشدات منذ أبريل 2004 مؤشرا قويا على نجاح هذا الإصلاح الطموح للحقل الديني، لاسيما مع توفير تأطير ملائم يشمل القضايا المتعلقة بالمرأة، وتحسيس وتكوين الفتيات الشابات في مجال الشؤون الدينية والقيم الأخلاقية المتصلة بممارسة المواطنة. وفي السياق نفسه، يحتل المسجد مكانة مركزية في المشروع التجديدي لصاحب الجلالة. وتتجلى هذه المكانة في وضع برنامج واسع لبناء وإعادة بناء المساجد بكلفة مالية تبلغ 2,7 مليار درهم، علاوة على مراجعة التشريع الذي ينظم أماكن العبادة من أجل تعزيز دورها في التحسيس والتوجيه الديني للمواطنين، وأيضا باعتبارها مكانا لإشاعة العلم ومحاربة الأمية. وأوضح وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، في كلمة أمام جلالة الملك، خلال الاحتفاء بعيد المولد، هذه السنة، أن التوجيهات الملكية السامية في مجال تأهيل المساجد تم تفعيلها، عبر ستة برامج بكلفة 1,25 مليار درهم، استهدفت بالخصوص الأحياء الهامشية والحضرية والعالم القروي، إضافة إلى المساجد التاريخية. وأشار إلى أنه ستتم تعبئة كافة الوسائل على المستوى المحلي، خلال سنة 2013، من أجل إعادة بناء 650 مسجدا قديما توجد في مناطق ذات كثافة سكانية عالية. وفي السياق ذاته، أعطى صاحب الجلالة تعليماته السامية، من أجل تحسين الوضع المادي والمعنوي للقيمين الدينين. وبهذا الخصوص، قال التوفيق إن الأئمة والمرشدين الدينيين استفادوا من زيادة في علاواتهم، بالتوازي مع تسجيل تحسن ملحوظ في الخدمات التي تقدمها مؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية للقيمين الدينيين، موضحا أن الغلاف المالي المخصص للأئمة وصل إلى 1,2 مليار درهم. وتميز ورش الإصلاح بإسهام وسائل الإعلام، خاصة قناتي محمد السادس للقرآن الكريم الإذاعية والتلفزية، المحدثتين بمبادرة من صاحب الجلالة أمير المؤمنين، واللتين لا ينفك يتسع جمهورهما وإشعاعهما على الصعيدين الوطني والدولي. كما يعزز ترسيخ الدروس الحسنية في شهر رمضان من طرف صاحب الجلالة أمير المؤمنين التزام المغرب بمرجعيته الدينية الأصيلة، التي رعاها الملوك العلويون، ويساهم في هذه الدروس علماء وعالمات يشرحون تعاليم الدين السمحة والتوجه الكوني للإسلام وقدرته على الاستجابة لمتطلبات العصر. وشمل تجديد الحقل الديني كذلك تشجيع الشباب، خاصة عبر برمجة جائزة الاستحقاق الموجهة للطلبة الحافظين لكتاب الله والخريجين الذين يتميزون في علوم الدين والحديث والخط العربي. (و م ع)