تأتي استقالة حمادي الجبالي ٬ من رئاسة الحكومة التونسية ٬والتي أعلن عنها مساء أمس ٬ إثر استقباله من قبل الرئيس منصف المرزوقي ٬ لتزيد من تعميق الأزمة السياسية التي تعيشها تونس منذ عدة شهور وجاء اغتيال المعارض السياسي التونسي٬شكري بلعيد في وقت سابق من هذا الشهر ليزيدها تفاقما. وعلى الرغم من أن استقالة الجبالي كانت متوقعة بسبب ما واجهته مبادرته الرامية إلى تشكيل حكومة تكنوقراط من قبل أحزاب الأغلبية بالمجلس التأسيسي وعلى رأسها حزبه "حركة النهضة" التي تقود الائتلاف الحاكم٬ فإن المتتبعين للشأن التونسي يتوقعون أن تجعل المعارضة من هذه الاستقالة مبررا جديدا لتصعيد انتقاداتها لíœ"الترويكا" الحاكمة واتهامها بالفشل في تدبير المرحلة الانتقالية . وفي هذا الصدر حمل حزب "نداء تونس" ٬ الذي يتزعمه الوزير الأول السابق٬ الباجي قائد السبسي ويعتبره الكثير من المحللين٬ المنافس القوي لحزب النهضة ٬ المسؤولية لحركة النهضة ولحليفها في الحكم حزب "المؤتمر من أجل الجمهورية" ٬ في إفشال مبادرة الجبالى٬ معربا عن أسفه "لتوظيف الأطراف الحاكمة هذه المبادرة لامتصاص الغضب الشعبى ٬ إثر اغتيال الزعيم السياسي شكري بلعيد"٬ حسبما جاء في بيان للمكتب التنفيذي لهذا الحزب المعارض ٬ الذي دخل مؤخرا في تحالف مع أربعة أحزاب أخرى معارضة. كما شدد على ضرورة "التسريع بالكشف عن قتلة بلعيد ومن يقفون وراءهم وطالب بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة وفقا للمواصفات الدولية"٬ منددا بتواصل ما وصفه بلغة "التجييش والتهديد للشعب التونسي الغاضب على الفشل والعنف والاغتيال ". وفي ذات السياق تشدد المعارضة على ضرورة "تحييد" وزارات السيادة خاصة العدل والداخلية التي يوجد على رأسيهما اثنان من قيادات النهضة ٬ حيث أكد الناطق باسم "الحزب الجمهوري" المعارض ٬ عصام الشابي أن "المعارضة تتمسك بحد أدنى وهو تحييد وزارات السيادة" للتعامل مع أية حكومة جديدة. وعلى الرغم من أن حمادي الجبالي ٬ الذي يتولى في الآن ذاته منصب أمين عام حركة النهضة٬ عبر عن استعداده المشروط ليتولى مجددا تشكيل حكومة جديدة٬ فإن مهمته ٬ في رأي المحللين٬ لن تكون سهلة وستواجه عراقيل جمة ٬ خاصة وأنه صرح أمس لدى تقديم استقالته أنه ما زال مقتنعا بأن حكومة تكنوقراط هي السبيل الأنجع لاخراج البلاد من الأزمة . ولذلك سوف تتطلب منه هذه المهمة ٬في حالة تكليفه من جديد٬ المزيد من المشاورات السياسية المعقدة مع الأطراف السياسية التي ستقبل الدخول في الحكومة الجديدة ٬ التي ستكون هذه المرة "حكومة سياسية" مطعمة بكفاءات سياسية ٬ كما تريد ذلك أحزاب الأغلبية. وكان عدد من قادة الحركة ومن بينهم رئيس المكتب السياسي ٬ عامر العريض قد صرح مساء أمس ٬ أن الجبالي سيكون مرشح النهضة لقيادة الحكومة المقبلة٬ فيما ينتظر أن يشكل موضوع الحكومة الجديدة موضوع محادثات الرئيس المرزوقي اليوم ٬ مع رئيس الحركة ٬ راشد الغنوشي ٬ الذي سبق له أن صرح بإمكانية "تعديل" مشروع الجبالي المتعلق بحكومة تكنوقراط ليصبح "حكومة كفاءات سياسية" مدعومة من قبل أحزاب الأغلبية إلى جانب كفاءات وطنية غير متحزبة وأن يواصل الجبالي الاشراف عليها. وكان الجبالي قد صرح عقب تقديمه للاستقالة أنه يمكن أن يقبل تشكيل حكومة جديدة "بشرط أن تكون حكومة في خدمة الشعب" ٬ مشددا على أن "أي بديل آخر لحكومة كفاءات وطنية التي اقترحها ٬ سواء تعلق الأمر بحكومة ائتلافية أو غيرها٬ يجب أن تلبي شرط نجاح التجربة وتكون حكومة في خدمة الشعب وتبتعد عن التجاذبات السياسية ٬ وتلتزم ببرنامج واضح وأرضية سياسية وحوار وطني بدون استثناء". وأضاف قائلا "لن أنخرط في تجربة أخرى لا يكون فيها تحديد واضح ومسبق لتاريخ الانتخابات القادمة والانتهاء من كتابة الدستور" ٬ معتبرا أنه ليس المهم تشكيل الحكومة بل المهم هو توضيح الرؤية أمام الشعب وأمام الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين والرأي العام في الداخل والخارج". واعتبر الجبالي ٬ الذي التزم بعدم مشاركته في الانتخابات القادمة أن فشل مبادرته تشكيل حكومة تكنوقراطية بسبب عدم تلقيها الدعم اللازم من الأحزاب السياسية خلف "خيبة أمل كبيرة لدى الشعب التونسي في نخبته السياسية" ٬ معتبرا أن استقالته هي خطوة "لاسترجاع هذه الثقة". يذكر أن مبادرة الجبالي التي اصطدمت بمعارضة حزبه وحلفائها في الائتلاف الحاكم جاء غداة عملية الاغتيال التي تعرض ها المناضل اليساري شكري بلعيد وما أعقبها من حالة غضب في الشارع التونسي ترجمتها أعمال العنف والتخريب التي شهدتها عدة مدن تونسية. وقد ساهمت هذه المبادرة التي رحب بها شق واسع من أحزاب المعارضة ٬ في امتصاص حالة الغضب والاحتقان السياسي والاجتماعي . غير أنها سرعان ما بدأت تفقد تدريجيا زخمها مع إصرار "حركة النهضة" وجزء من حلفائها في الحكم على رفضها والاصرار على تشكيل حكومة سياسية . ومما يزيد من تعميق الشعور بالأزمة وحالة عدم الاستقرار في الشارع التونسي ولدى الرأي العام انتشار أعمال العنف و غلاء كلفة المعيشة في ظل موجة ارتفاع أسعار المواد الأساسية والخدمات ٬ فضلا عما يواجهه مسار الانتقال السياسي من تعثر جراء تباطؤ المجلس التأسيسي في الانتهاء من كتابة الدستور وتحديد تاريخ الانتخابات القادمة ٬ وأيضا في ظل الصعوبات التي يواجهها الاقتصاد التونسي . وكانت وكالة الترقيم الأمريكية "ستاندار أند بورز" قد أعلنت أمس أنها قررت تخفيضا جديدا في التصنيف السياسي لتونس ٬ وأرجعت ذلك إلى الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد ٬ مشيرة إلى "احتمال تدهور الوضع السياسي في ظل آفاق مالية واقتصادية وخارجية تزداد سوءا"٬ كما جاء في بيان الوكالة الذي أوردته اليوم وسائل الاعلام التونسية. وعلى الرغم مما يحظى به الجبالي المحسوب على الجناح المعتدل في حركة النهضة ٬ من قبول ودعم من قبل أطراف كثيرة من المعارضة والأوساط النقابية ورجال الأعمال ٬تضاف إلى ما راكمه من خبرة بدواليب الحكم خلال الفترة التي قضاها على رأس الحكومة التي شكلها في ديسمبر 2011 ٬ فإن مهمته في حالة ما إذا تم تكليفه مجددا بتشكيل حكومة جديدة ٬ لن تكون يسيرة بسبب الظرفية الصعبة التي تمر بها البلاد . وفي هذا السياق عبر رئيس "الحزب الجمهوري" المعارضة ٬أحمد نجيب الشابي عقب اجتماعه أمس مع الرئيس المرزوقي عن تطلعه ليواصل حمادي الجبالي مهمته على رأس الحكومة الجديدة "لأنه أصبح جزءا من الحل والعمود الفقري للحكومة ولا أحد يرى الحكومة دون الجبالي"٬ وقال إن "رصيده تدعم منذ السادس من فبراير يوم قرر الإعلان عن مبادرة حكومة تقنوكراط".