شكلت ساحة جامع الفنا فضاء لحيوانات تشارك في الحلقة، سواء الأليف منها أو المروضة، منها القردة، والحمام الزاجل، والثعابين، والأفاعي، والحرباء، والفار الأبيض، والأرانب، بالإضافة إلى العديد من الحشرات السامة، كالعقارب وغيرها. "أنا جنرال نتاع الحمام هنا بجامع الفناء، أنا تنتحكم في هذا الحمام وتنسيرو كيفما شئت"، بهذه العبارة استهل العشاب عبد المجيد نيني، أحد أصدقاء الشرقاوي مول الحمام، أغرب الشخصيات التي عرفتها الساحة، وجمعت بين حدة الذكاء وقوة الموهبة، إذ هام في الساحة مرتديا "دربالة"، ويحدث الناس عن الحياة والموت، عن الإنسان والنساء، أخلص للساحة، فأحبه الناس، بل إن بعضهم يعتبره معلما في الحياة. يفترش نيني، الذي كان يحترف مهنة التنجيم وبيع الأعشاب الطبيعية بساحة جامع الفنا، رفقة صديقه المحجوب الزعري، رقعة صغيرة، في ركن منزو أمام جامع خربوش، بالجهة الشرقية للساحة، ويعرض مختلف أصناف الحمام، خاصة "الهبلو" و"البوعبدلاوية" من ألمانيا، و"الطوبية" من المغرب، و"الطاوسية الحرة"، التي تتحدر من الهند، و"البيض" من تونس، و الحمام المهاجر، وغيرها من الأصناف الأخرى. يحاول نيني، الذي احترف الكلام وتعلق بالحمام، إحياء تراث الشرقاوي بعد وفاته، إذ ينساب الكلام من فمه حكما وأمثالا، لا ينطق إلا ليلقن الدروس التي استقاها من كلام الشرقاوي والمجذوب، ومن تجربة غنية في الحياة. يقول الزعري، صديق نيني، جنرال الحمام بجامع الفنا، عن السر في عدم مغادرة الحمام لحلقته "يجب تعويد الحمام على المكان من أجل حفظه لمدة سنة، من خلال إطلاق حمامة كبيرة وإلصاق أجنحتها". وأضاف الزعري، في لقاء مع "المغربية"، أنه قبل الشروع في افتراش المكان المخصص للحلقة أمام جامع خربوش، يطلق سرب الحمام، الذي يتكون من مختلف الأصناف، في السماء، من حي رياض الزيتون، القريب من ساحة جامع الفنا، قبل أن يحط الرحال بالمكان المخصص للحلقة. نيني ورفيقه الزعري، وحدهما يعرفان سر تصنيفات الحمام، التي أبهرت وأمتعت جمهورهما عقودا من الزمن في عهد الشرقاوي مول الحمام، ولم يكن ينقصهما إلا ذكر تواريخ ميلادها، على حد قول أحد المراكشيين. وظل الشرقاوي، رفقة صديقه الضرير بنفايدة، ينشطان الحلقة على امتداد ربع قرن بجامع الفنا، يتحدثان عن الحيوانات والطيور، في حوار يبدأه الضرير بقوله "آها آها، اللي عندو بنت وما عطاها (زوجها) ينعل باه وباها"، ثم يتحدث عن الأرزاق "رزق الجوف يبات فيه وقادر من خلق ولد الحمامة فالعش، يرزقو ما يخليه"، ليسأله الشرقاوي عن أصل بعض الطيور والحيوانات، فيجيب ابن فايدة دون تردد وهو يدخن الشيشة، عن أصل الطيور والحمام. وشكل الشرقاوي وبنفايدة ثنائيا استثنائيا على امتداد ربع قرن، وكانت الحلقة التي يعقدانها من أكبر حلقات ساحة جامع الفنا، تؤثثها ديكورات وحمامات تجوب الساحة، دون أن تغادره، قبل أن تحط على يد الشرقاوي، الذي تعلق بالحمام لمدة أزيد من أربعين سنة. كان الشرقاوي "هداويا مجذوبا" يحفظ الأذكار، ويهيم في ذكر اسم الله بعد ذلك، التقى بصديقه بنفايدة، الذي لازمه طوال حياته ولم يفترقا، حتى أن كل من نظر إليهما ظنهما شقيقين، جمعهما حب الحلقة، ووحدهما صراع الحياة من أجل لقمة العيش، فالتصقا بالساحة يغزلان من مرارة الحياة مشاهد الفرجة، ويستلان البسمة من شفاه، تبحث عن الفرح، في زحمة ثقل العيش.