تكاد تجمع مختلف القراءات المطروحة حول المسألة الثقافية في وقتنا الراهن على أن الخلل يكمن في إشكالية التدبير وليس على مستوى المقاربة، وإذا سلمنا عمليا بهذا الطرح نكون قد وضعنا القطاع الوصي في موقع المسؤولية مع العلم أن المشرع حدد دور الوزارة ومجالات تخصصها في منظم قانوني، في حين أن الإشكالية تتجاوز التدبير الحالي إلى طرح السؤال، وفق مقاربة تأخذ الفعل الثقافي بكل تجلياته وتمثلاته. ومن هذا المنطلق، فإن تناول الإشكالية الثقافية يطرح نقاشا محوريا حول مراميها ومساحاتها، خاصة أنها تركيب مجتمعي معقد لإطار تتداخل فيه عوامل تمس الرقعة الجغرافية، والزحف الكرونولوجي لأحداث ووقائع تنتج سلوكات ومفاهيم تؤطر المجتمع معرفيا ولغويا وعمرانيا، وبالتالي فإن التمظهرات على مستوى العراقة والحداثة هو تحصيل حاصل لبنية المجتمع، وتموجاته التاريخية، وموقعه الجغرافي، ومن هنا يصعب تحديد مجال الفعل الثقافي وحدود مساحته، لأنه سلوك ونمط عيش ولغة تواصل وبنية تدبير العلاقة داخل المجتمع أفقيا وعموديا. إن مختلف الدراسات السوسيولوجية، التي واكبت المرحلة الكولونيالية لم تتوفق عمليا في النفاذ إلى عمق البناء الهوياتي للشخصية المغربية وميكانزمات البنية المجتمعية في مغرب ما قبل القرن التاسع عشر، بل صاغت تقاريرها في قالب إيديولوجي يحمل بين طياته بواعث استعمارية تقدم المدنية والحداثة كقيم جديدة للمجتمعات الغارقة في التقليدانية، وهذا الفهم الخاطئ هو الذي عجل بالاصطدام العسكري في بداية الأمر (حركة الشيخ الهيبة - معركة الهري وأنوال) أو في المجال الفكري والمعرفي عن طريق مسالك متنوعة، كتنامي التعليم الأصيل، وبروز التيار السلفي الإصلاحي، ومناهضة الظهير البربري، والبداية الأولى لما أصبح يعرف في ما بعد بالحركة الوطنية، التي بنت مرجعيتها الفكرية على حماية الهوية المغربية، والانتماء للأمة العربية الإسلامية في مواجهة المخططات الاستعمارية، ولعل أبرز تحد لذلك هو وثيقة 11 يناير 1944 للمطالبة بالاستقلال. إن بناء مغرب ما بعد الحماية وما طرحه من تحديات وأولويات في كافة المجالات اقتصاديا واجتماعيا، في ظل صراع فكري وإيديولوجي، أفرزته الحرب الباردة ما بين المعسكرين الشرقي والغربي، وما لذلك من ارتدادات في البناء المجتمعي للدول الحاصلة على استقلالها على مستوى أنماط عيشها وتواصلها، فإن النسيج الثقافي كان هو الوعاء الخصب الحاضن لكل هذه التمظهرات والتمثلات، التي خلقت منهجا وسلوكا أثر ولمدة عقود على البنية التدبيرية لأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، باعتبار المغرب جزءا لا يتجزأ من هذه المنظومة، فإن مجتمعه المدني من أحزاب ونقابات وجمعيات وغيرها، شكلت القاعدة الصلبة لهذا النقاش، بغية ترسيخ الوعي بأهمية الانتماء الفكري والإيديولوجي كمنهج لمواجهة التحديات المستقبلية، رغم المفارقات والتناقضات، التي شكلت دوما اختلالا جوهريا على مستوى التصورات والبناء التحليلي في المعطيات والمفاهيم، التي لم تكن وليدة التربة المغربية، وهذا مرده إلى غياب بنية ثقافية تكون قاعدة خلفية لأي تحول مجتمعي مبني على شروط موضوعية تنسجم مع معطيات الجغرافية والتاريخ. لقد غيبت مختلف التنظيمات الحزبية وغيرها من منظمات المجتمع المدني، إدراج السؤال الثقافي في نقاشها العمومي، وتصوراتها الاستراتيجية، ومقرراتها التنظيمية والسياسية، وذلك راجع بالأساس إلى ضغط الأولويات والحاجيات المجتمعية الملحة، أو انسجاما مع اختياراتها المرجعية أو الإيديولوجية، الشيء الذي صعب عليها فك شفرة البنية المجتمعية المغربية في أنساقها الثقافية في مختلف تموجاتها المجالية، وأزمنتها التاريخية في حالة التوحد والانقسام، والانكماش، والانغلاق، والانفتاح، في القرى والمداشر، والجبال والسهول والهضاب، والمدن والحواضر، أو عبر آليات الضغط والمراقبة، وإنتاج القيم عبر وسائطها الرمزية وغير الرمزية (الشرفاء - الضريح - الزاوية - المسجد - الفقيه- المسيد - العدول - الحلقة - الأعيان - التجار - الحرفيون - الموانئ – اللباس- المواسم - الأسواق الأسبوعية - الأعراس - الحرث - الحصاد)، كل هذه الإشارات البسيطة تشكل حلقة من حلقات بناء وتركيب السؤال الثقافي، الذي يتفاعل بشكل جدلي مع محيطه السوسيولوجي. إن إعادة الوعي للفعل الثقافي يقتضي إدماجه في كل المشاريع المجتمعية والمقررات التنظيمية، والورقات السياسية لمختلف هيئات ومنظمات المجتمع المدني، والأحزاب والنقابات، لأنه هو الفضاء الرحب الذي تنصهر فيه كل التفاعلات المجتمعية، وتتبلور عبره كل التوجهات والمضامين في تشكلاتها وقدراتها على خلق الرقي والتقدم وغيرها من أنماط التواصل، وآليات التدبير (التربية – التكوين - الإعلام - العمران - المعاش - القبيلة - القرية - المدينة)، وغيرها من مظاهر الحياة، في ظل منظومة ثقافية أساسها الإنسان كمصدر للفكر والإبداع. ومن هنا ينبغي الإقلاع عن ذلك الخلط التعسفي ما بين الشأن الثقافي والسؤال الثقافي، لأن ما تقوم به المؤسسة الوصية على القطاع (وزارة الثقافة) لا يشكل إلا الجزء اليسير من مضامين الفعل الثقافي، فالتراث، والحرف التقليدية، والمدن العتيقة، والتعابير الشفاهية وغير الشفاهية، والموسيقى التراثية، والإبداع بكل أصنافه، ما هو إلا آلية من آليات التواصل، التي أفرزها المجتمع عبر حقبه التاريخية، وبالتالي فإن الفعل الثقافي هو الإطار الشمولي لكل هذه التحولات، وهو المحرك الرئيسي لعجلة التبلور على مختلف الأنساق، سواء كانت فكرية أو اقتصادية أو اجتماعية. الكاتب العام للمكتب الوطني لقطاع الثقافة بالكونفدرالية الديمقراطية للشغل.