مرت سبع سنوات على تحطم قارب "سعيدة" بشاطئ مهدية، الذي كان يقل على متنه ثمانية بحارة نجا منهم اثنان بأعجوبة، لكن رغم مرور السنين لم تنسى الأرامل واليتامى حادث يوم 20 دجنبر 2003. زارت "المغربية" دوار قصبة مهدية يوم 20 دجنبر الجاري، الذي يصادف الذكرى السابعة لوفاة مجموعة من البحارة، حيث وجدت أرامل ويتامى هؤلاء الضحايا لم يتخلصوا من تبعات تلك الذكرى الأليمة. أطفال يحملون الحقد والغل للبحر ويرفضون الاقتراب منه، فهو بالنسبة إليهم وحش ثائر يبتلع الآباء، وشبح مخيف زرع الرعب في قلوب أمهاتهم اللواتي حفرن في الصخر لتوفير كسرة خبز لأفواه جائعة. حداد مستمر صمت يخيم على المكان، وحزن مرسوم على وجوه أطفال يتامى، يلعبون بالرمل، وشباك صغيرة، ويسألون بعضهم البعض "حين تكبر يا أيوب هل تصبح بحارا؟"، هل ستدخل البحر لتصطاد السمك"، فيكون الجواب حاسما "لن أصبح بحارا أبد "، "أنا أكره البحر، خطف والدي وتسبب في يتمي". هؤلاء الأطفال فقدوا آبائهم سنة 2003 وأعمارهم تترواح ما بين 3 و 4 سنوات، تربوا في كنف أمهات كافحن من أجل تربيتهن وتوفير لقمة العيش، رغم صعوبة الظروف، منهم من يكد ويجتهد لإتمام تعليمه، وآخرون يعلمون أن مصيرهم سيكون الضياع بعد الانقطاع عن الدراسة. يحمل هؤلاء الأطفال الحقد والغل للبحر ويرفضون الاقتراب منه، فهو بالنسبة إليهم وحش ثائر يبتلع الآباء، وشبح مخيف زرع الرعب في قلوب أمهاتهم. رغم مرور سبع سنوات على وفاة محمد الخرطة، الذي لقي مصرعه غرقا في عرض البحر بشاطئ مهدية يوم 20 دجنبر 2003، رفقة سبع بحارة آخرين، مازالت أرملته نعيمة قدار، أم لأربعة أبناء، لم تنس ذلك اليوم المشؤوم، كلما ذكر أحد اسمه إلا عاد شريط أحزانها وآلامها وانزوت في مكان تبكي وترثي حالها وظروفها، التي لم تتحسن بعد. رغم صغر سن نعيمة ومعاناتها بعد وفاة الزوج لم تفكر في الزواج، بل فضلت البحث عن مورد رزق لتربية وتعليم أطفالها... ظلت نعيمة أربع سنوات تمتهن عدة حرف من بائعة نعناع وبغرير وخبز إلى العمل في البيوت مقابل أجر هزيل، إلا أن ألم بها مرض الأعصاب على مستوى الرأس وألزمها الفراش...، بمرور أربع سنوات على وفاة الزوج استبشرت نعيمة خيرا بعد صدور حكم القضاء القاضي بصرف تعويضات شهرية لأرامل ويتامى ضحايا غرق القارب، لكن لم تكتمل فرحتها بمجرد ما توصلت بتعويض هزيل قيمته 500 درهم في الشهر، زائد مبلغ ألف درهم تعويض التأمين يتوزع على كل أفراد الأسرة. كلما اقتربت ذكرى حادث غرق الخرطة إلا وضمت أبناءها الأربعة وعانقت صورة زوجها الضحية لتشتم رائحة البحر، التي كانت تنبعث من جسده وطيبة زبد البحر، الذي يظل عالقا بثياب الصيد... لم تنس نعيمة ذكرى الحبيب، كلما شدها الحنين قصدت الشاطئ تكلم حبيبها. وجدت نعيمة ضالتها عند جمعيتي المبادرة وضحايا أرامل وضحايا البحر، اللذين يقدمان بعض المساعدات من قبيل كبش العيد، والسكر والدقيق. أما مليكة، زوجة محمد زطيطو، الملقب ب "اللوة" لم تستطع في البداية أن تستجمع قواها للحديث معنا، إذ انهمرت عيناها بالدموع، وتذكرت يوم الحادث الذي يتزامن مع 20 دجنبر، وبعد بضع دقائق تمالكت أعصابها واستعادت أنفاسها، ورددت بصوت حزين "مازالت أعاني مشاكل مادية بسبب ضعف الراتب الشهري المحدد في 500 درهم زائد مبلغ التأمين، الذي تفاجأت بحرمان أحد أبنائي رغم عدم انقطاعه عن الدراسة". مرارة العيش رغم قساوة العيش بدوار مهدية، اضطرت مليكة إلى العمل في مصنع تصبير السمك، لكنها تركته بسبب إصابتها بمرض الحساسية الناتج عن تنقية الأسماك من الشوائب، تقول إنها عانت مدة أربع سنوات، أي قبل صرف التعويض الذي وصفته بالهزيل في سبيل ضمان لقمة العيش ومصاريف الدراسة. واستطردت مليكة "لا أريد في يوم من الأيام أن يلج أحد أبنائي البحر ويمتهن الصيد، يكفي أنني فقدت زوجي بسبب الصيد". وقالت مليكة، بصوت حزين، إنها تعبت من العمل في البيوت والطبخ في المناسبات وتتطلع إلى مستقبل أفضل لأبنائها الثلاثة، الذين مازالوا يتابعون دراستهم رغم قلة ذات اليد. بعد مليكة، كانت الوجهة إلى منزل حبيبة، أرملة مصطفى الفقيه وأم لثلاثة بنات، سيدة في متوسط العمر، تتمتع بجمال آخاذ وقوام جميل، لكنها رفضت الارتماء في أحضان زوج ثان وفضلت تربية بناتها الثلاثة. تقول حبيبة، بنبرة حزينة، "تعذبت بعد وفاة زوجي، لا فلوس، لا تعويض"، واستطردت مليكة قائلة "بمرور أربع سنوات، وبعد حكم القضاء، حصلت على تعويض بئيس". وتساءلت حبيبة "كيف أن أدبر حالي، وفاتورة الماء والكهرباء مرتفعة ومصاريف الأكل والشرب أيضا؟" ورددت بصوت مرتفع "تفاجأت لاقتطاع مبلغ التأمين لابنتي التي تبلغ 16 سنة، ومازالت تتابع دراستها، أما شقيقتها فانقطعت عن الدراسة واضطرت إلى العمل من أجل مساعدتي في مصاريف البيت. وانتفضت حبيبة مرددة "لا أحد من المنتخبين طرق بابنا، لولا جمعية مبادرة"، وطالبت المسؤولين بالتدخل، والوقوف على مشاكل الأرامل وأبنائهم. قرية الأرامل فاطمة لعوج (46 سنة)، أرملة ليست كباقي الأرامل بدوار قصبة مهدية، بل فقدت زوجها عبد الرحمن بابا سي منذ أزيد من 20 سنة، ولم تستفد بعد وفاته من أي تعويضات مالية، سواء هزيلة أو مهمة. ظلت فاطمة تبكي حالها رفقة ابنيها، البالغين الآن 21 و 24 سنة. تعيش فاطمة حالة نفسية صعبة، فهي ترفض قطعا أن يمتهن ابناها مهنة الصيد التقليدي، إذ قالت بصوت حزين "اللهما أولادي يبقاو حدايا نشوف فيهم، ولاّ يمشوا يغرقو ليا في البحر بحال باهم". رغم كبر سن أبناء فاطمة فهما لا يبرحان البيت، وليس لديهما أي مورد رزق، فالأول توقف عن الدراسة وهو في السنة الثانية ثانوي، والثاني من السنة التاسعة أساسي. تعيش أسرة بابا سي معاناة حقيقية، لكن أرملته فاطمة، التي مازالت تعيش ببيت حماتها تردد بين الفينة والأخرى عبارة "الحمد لله، دابا ربي يدير شي تاويل من عندو". دوار قصبة مهدية دوار يسوده الحزن، إذ لا حديث لسكانه وزواره سوى عن مشاكل البحر، الذي ابتلع أعدادا كبيرة من البحارة دفعة واحدة، إذ أشار مصدر غير رسمي إلى أن حوالي 86 في المائة من الأرامل والأيتام بهذا الدوار فقدوا الأزواج والآباء في البحر خلال الثلاثة عقود الأخيرة. ليس سكان دوار قصبة مهدية وحدهم من يعيشون مأساة غرق بحارة وترمل زوجاتهم، بل سكان دوار "الشليحات" المعزول أيضا، الذي يبعد عن دوار قصبة مهدية ببضع كيلومترا، لكن الوصول إليه يتطلب عبور الوادي بواسطة مركب تقليدي "فلوكة"، وخلال شهر يناير المقبل ستحل الذكرى السابعة لوفاة بحارين بسبب تحطم قارب "عسالية" كان يقل ثلاثة بحارة نجا منهم واحد بعد صراع دام طويلا مع الأمواج.