صمت يخيم على المكان، وحزن مرسوم على وجوه أطفال يتامى، يلعبون بالرمل وبشباك صغيرة.. وهم يرددون "حين تكبر يا أيوب، هل ستصبح بحارا، هل ستدخل البحر لتصطاد السمك؟"، فيأتي الجواب، "لن أصبح بحارا أبدا، أكره البحر، لأنه خطف والدي، وتسبب في يتمي". هؤلاء الأطفال فقدوا آباءهم سنة 2003، وأعمارهم، آنذاك، بين 3 و4 سنوات، وتربوا في كنف أمهات، كافحن من أجل تربيتهم وتوفير لقمة العيش، رغم صعوبة الظروف، ومنهم من يكد ويجتهد لإتمام تعليمه، وآخرون يعلمون أن مصيرهم سيكون الضياع، بعد الانقطاع عن الدراسة. يحمل هؤلاء الأطفال الحقد والغل للبحر، ويرفضون الاقتراب منه، فهو، بالنسبة إليهم وحش ثائر، يبتلع الآباء، وشبح مخيف زرع الرعب في قلوب أمهاتهم، اللواتي حفرن في الصخر لتوفير لقمة لأفواه جائعة. رغم صغر سن نعيمة، ومعاناتها بعد وفاة الزوج، لم تفكر في الزواج، وفضلت البحث عن مورد رزق لتربية وتعليم أطفالها. ظلت نعيمة أربع سنوات تمتهن حرفا مختلفة، من بائعة نعناع وبغرير وخبز، وعمل في البيوت مقابل أجر هزيل، إلا أن مرضا في الرأس ألم بها وألزمها الفراش. وبعد أربع سنوات على وفاة الزوج، استبشرت نعيمة خيرا، بعد صدور حكم بقضي بصرف تعويضات شهرية لأرامل ويتامى ضحايا الغرق، لكن لم تكتمل فرحتها، إذ توصلت بتعويض هزيل، قيمته 500 درهم في الشهر، زائد مبلغ ألف درهم، تعويض التأمين، الذي يتوزع على كل أفراد الأسرة. وجدت نعيمة ضالتها لدى جمعيتي المبادرة، وضحايا البحر، اللتين تقدمان بعض المساعدات، من قبيل كبش العيد، وسكر ودقيق. أما مليكة، زوجة محمد زطيطو، فلم تستطع، في البداية، أن تستجمع قواها للحديث مع "المغربية"، إذ انهمرت عيناها بالدموع، وتذكرت الحادث، يوم 20 دجنبر 2003. وبعد بضع دقائق، تمالكت أعصابها واستعادت أنفاسها، ورددت بصوت حزين "مازلت أعاني مشاكل مادية، بسبب ضعف الراتب الشهري، المحدد في 500 درهم زائد مبلغ التأمين، الذي فوجئت بحرمان أحد أبنائي منه، رغم عدم انقطاعه عن الدراسة". رغم قساوة العيش بدوار مهدية، اضطرت مليكة إلى العمل في مصنع تصبير السمك، لكنها تركته بسبب إصابتها بمرض الحساسية ،الناتج عن تنقية الأسماك من الشوائب. وتقول إنها عانت مدة أربع سنوات، قبل صرف التعويض، الذي وصفته بالهزيل، في سبيل ضمان لقمة العيش ومصاريف الدراسة. واستطردت مليكة "لا أريد، في يوم من الأيام، أن يلج أحد أبنائي البحر ويمتهن الصيد، يكفي أنني فقدت زوجي بسبب الصيد". وقالت مليكة، بصوت حزين، إنها تعبت من العمل في البيوت والطبخ في المناسبات، وتتطلع إلى مستقبل أفضل لأبنائها الثلاثة، الذين مازالوا يتابعون دراستهم، رغم قلة ذات اليد. دوار قصبة مهدية، فضاء يسوده الحزن، إذ لا حديث لسكانه وزواره سوى عن مشاكل البحر، الذي ابتلع أعدادا كبيرة من البحارة دفعة واحدة، إذ أشار مصدر غير رسمي إلى أن حوالي 86 في المائة من الأرامل والأيتام بهذا الدوار فقدوا الأزواج والآباء في البحر خلال الثلاثة عقود الأخيرة.