شكلت مبادرة صاحب الجلالة الملك محمد السادس بتمكين المغرب من نظام الجهوية المتقدمة محور النقاش الذي احتضنته، يوم الخميس المنصرم، الجمعية الوطنية الفرنسية (الغرفة السفلى للبرلمان)، بمشاركة شخصيات بارزة وأساتذة مرموقين بعدد من الجامعات الفرنسية والمغربية. وقدم النائب جان رواتا، رئيس مجموعة الصداقة الفرنسية-المغربية بالجمعية الوطنية الفرنسية، في افتتاح أشغال الندوة، التي انعقدت تحت شعار "الدولة والمجال الترابي والتطور السياسي بالمغرب"، شهادة قوية حول الروابط، التي تجمع البرلمانيين الفرنسيين بالمغرب، مؤكدا أن مجموعة الصداقة التي يترأسها هي الأكبر من نوعها بالجمعية الوطنية، إذ تضم 192 نائبا يمثلون مختلف التيارات السياسية الفرنسية. وفي معرض حديثه عن الموضوع المحوري للندوة، أشار رواتا إلى بعد وأهمية المبادرة الملكية للجهوية، التي سيمكن تطبيقها من جعل الجهات "محركا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد"، وإيجاد حل نهائي لنزاع الصحراء. وأوضح رواتا أن "من البديهي أن المؤسسات الجديدة ستمكن الأقاليم الجنوبية من تسيير شؤونها لما فيه مصلحة السكان المتشبثين ببيعتهم للملوك العلويين، من خلال روابط الولاء التقليدية والروابط الحديثة للمواطنة، في إطار دستوري وإداري". المغرب، تقليد عريق للامركزية أكد المتدخلون، الذين تناولوا الكلمة، أن المغرب، الأمة العريقة والغنية بتقليد راسخ في اللامركزية، يمكنه رفع تحدي الجهوية. واعتبر شارل سان-بور، مدير مرصد الدراسات الاستراتيجية، أن هذا الورش "ليس فكرة جديدة فرضتها الظرفية أو الانتهازية"، معربا عن اعتقاده بأن المغرب "عرف كيف يسن على مر تاريخه نظاما إداريا مرنا، يضمن في الوقت ذاته صيغة للوحدة الوطنية ونوعا من اللامركزية". وأوضح أن هذه الوحدة الوطنية هي ثمرة تضافر ثلاثة عوامل تتمثل في "الإسلام"، الذي شجع على الانصهار بين الأمازيغ والعرب، وهذا الدور الذي رسخته "الملكية" الضامنة لاستقرار البلاد، ثم "إرادة العيش المشترك" في مغرب يعي شعبه بأنه يشكل أمة عريقة. وأشار ميشيل دوغوف، أستاذ القانون العام بجامعة باريس ديكارت، أن المغرب، بإطلاقه للجهوية مجددا، يحيي علاقته بماضيه، على اعتبار أن الحماية هي التي عززت المركزية، مبرزا بدوره أن المغرب "أمة تعددية موحدة حول ثقافة وعقيدة ومصير مشتركين". وفي السياق نفسه، أبرز الأستاذ محمد الشرقاوي، مدير البحث بالمركز الوطني للبحث العلمي (فرنسا)، أن "السلطة المحلية كانت دوما على مر التاريخ مدمجة في البنيات الاجتماعية والسياسية بالمغرب"، وأن "التحويل التدريجي لبعض اختصاصات الدولة إلى الجماعات والجهات كان مقصودا ومبرمجا من قبل المركز، في وقت بلغت سلطته، في المقابل، ذروتها". الجهوية رافعة للديمقراطية والتنمية وأجمع المتدخلون، لدى استعراضهم تطور مفهوم الجهوية، منذ الاستقلال إلى غاية الخطاب، الذي ألقاه صاحب الجلالة الملك محمد السادس في ثالث يناير 2010، بمناسبة تنصيب اللجنة الاستشارية للجهوية، على تسجيل نضج هذا المفهوم وأهميته. وسجل أحمد بوعشيق ومحمد بنيحيى، الأستاذان بجامعة محمد الخامس-السويسي، مديرا المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، أن الجهوية من منظور الخطاب الملكي ،"رافعة للديمقراطية المحلية التشاركية وللقرب، وصيغة للحكامة الترابية (... ) تضع المواطن في قلب مسلسل التنمية". وبالنسبة للأستاذ الشرقاوي، يوجد "ترابط بين الجهوية والدمقرطة" لفائدة وجود تعاقد اجتماعي جديد بين الدولة والجهة، يسمح ببروز نخب محلية جديدة، والانتقال الفعلي للكفاءات والموارد إلى الجهات. نفس الملاحظة أدلى بها الباحث الجامعي ديغوف، الذي يشير إلى وجود علاقة بين تطور الحريات الأساسية وتطور اللامركزية، لافتا الانتباه إلى أن "أي نظام سياسي ينهض باللامركزية، فإنه يتجه بالضرورة إلى تطوير الحريات الأساسية". من جهته، أكد الأستاذ الجامعي سانت بروف أن إطلاق مسلسل اللامركزية "لا يندرج في إطار الاستجابة لتقليعة ظرفية، وإنما تمليه حاجيات دقيقة"، وقال إن الهدف ليس فقط إعادة تنظيم إداري، وإنما "إعطاء دفعة جديدة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية". وباستعراضه لأهم محاور الحكامة الجديدة التي أطلقت بمبادرة ملكية، حرص سفير المغرب بفرنسا، المصطفى ساهل، في كلمة ألقيت بالنيابة عنه، بالخصوص، على التأكيد على "أولوية العمل الميداني"، و"الرفع من مستوى الموارد البشرية والمؤسساتية والترابية"، و"البحث عن توازن للتنمية". نحو نموذج مغربي للجهوية بالنظر إلى قدم ممارسة اللامركزية في المغرب، أشار المتدخلون إلى أصالة المبادرة الملكية، التي فرضت على اللجنة الاستشارية للجهوية نموذجا مغربيا -مغربيا للجهوية، مع تفادي السقوط في المحاكاة العمياء أو إعادة الإنتاج الحرفي للتجارب الأجنبية. وبالنسبة لفريدريك روفيون، الأستاذ المحاضر لمادة القانون بجامعة باريس-ديكارت، فإن هذا الحذر من المحاكاة يستجيب لحاجة "وضع نظام منبثق من الخصوصيات المغربية، التي تمثل أسس الهوية المغربية، والتي لا يمكن الخروج عنها بالخضوع لنموذج دولي، كيفما كانت جاذبيته". لكن هذا الحذر، يلاحظ الأستاذان الجامعيان روفيون ورواطا، لا يعني استبعاد الاستفادة من الدروس التي يمكن استخلاصها من التجارب الأجنبية للجهوية" أو تجنب "استعارة عناصر مناسبة أثبتت فاعليتها في النماذج الأجنبية". وأوضح الأستاذ روفيون أن "إيجاد نموذج يعني بناء واحد" من خلال عمل معياري يرتكز على المقارنة بين استحقاقات وحدود التجارب الأجنبية. وفي معرض شهادته عن دينامية التنمية في المغرب، أشار هنري لويس فيدي، أستاذ الاقتصاد بالمدرسة العليا للدراسات التجارية بباريس، ومؤلف كتاب "المغرب - امتحان الوقائع والإنجازات"، إلى أن "المغرب يعد نموذجا للجهوية، حتى قبل أن يجري تنفيذ هذا المشروع في حد ذاته". وتميز النقاش، الذي أعقب هذه المداخلات، بتبادل مثمر للأفكار والتصورات بين المتدخلين والحاضرين، الذين كان أغلبهم من الطلبة والأطر المغربية المقيمين بفرنسا، والمنخرطين في تنظيم هذا اللقاء من خلال جمعية الطلبة المغاربة بفرنسا. جرى تنظيم هذه الندوة، المنعقدة تحت رعاية مجموعة الصداقة البرلمانية الفرنسية المغربية، بشراكة أيضا مع مركز موريس هوريو، التابع لكلية الحقوق - جامعة باريس- ديكارت، والمجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، وجمعية الطلبة المغاربة بفرنسا.