قرأت فيما يقرؤه النائم تشبيها للتغيير في بلاد المغرب بمن ينتقل من بيت قديم إلى بيت جديد. وعليه فمن غير المعقول أن يضع صاحب البيت القديم (الشعب المغربي) أثاثه وأمتعته على رصيف الشارع في انتظار بناء البيت الجديد. ولاسيما أن بيتا بديلا موجود أصلا ومتوفر لاستقباله : الأحزاب التقليدية المتواجدة على الساحة السياسية والتي لا يجب على المغاربة التفريط فيها، وعلى رأسها طبعا حزب ورثه عباس عن علال، أو بالعربي الفصيح وأسلوب الخشيبات وطريقة (با-بو-بي) ومنهج الاستهبال؛ حزب الاستقلال. كما أنه ليس من المعقول، بل و من جنون المكية الخرقاء التي كانت تنقض غزلها بعد إبرام، بأن نبدأ من الصفر. لكن منطق هذا التشبيه -على تماسكه الظاهري- متهافت وفيه كثير من المغالطة والتسرع في استخلاص نتائج مضللة من معطيات خاطئة. أكثر التحليلات سطحية وأكثر المقاربات بساطة وبدائية، تقول بأن المغرب لن يبدأ من الصفر فحسب، بل وسيبدأ من تحت الصفر، إذا ما كتب للثورة في المغرب الحدوث؛ ثم من بعده النجاح. لطالما صدعت رؤوسنا الصحافة والأحزاب المنافقة -الحكومية منها قبل المعارضة ومرورا بالحربانية المتلونة- بالخطوط الحمراء وقداسة الملك، بالضبط كما تفعل اليوم في زمن الثورات التي ستذهب بالأنظمة العربية جميعها (بإذن الله)، وتستثني المغرب (بستر الله) لأن فوق رأسه ريشة وتجري في عروقه دماء زرقاء وما إلى ذلك من خطابات الإيحاء الذاتي الحالم وبروباغندا الإيجابية الواهمة. لم يبرد جسد الحسن الثاني في قبره حتى تجاوزت أقلامهم وأصواتهم الخطوط الحمراء، وانحلت عقدة ألسنتهم الغوردية لتتعلم الفصاحة بين عشية وضحاها قبل حروف الهجاء، وتصف زمان حكم (حبيب الجماهير) بسنوات الرصاص. كما تعرضت الصحافة بعدالتها العمرية لحزب (العائلة الحاكمة) بالنقد اللاذع بسبب تماديه العبثي في الرشوة والمحسوبية والزبونية. كما لو كانت قد اكتشفت حزب الاستقلال اليوم. ونسيت أو تناست أن حزب عباس هو نفسه حزب علال، مع أن قانون حفظ المادة الخاص بالحزب يضيع المادة ولا يحول أسماء العائلة في نظام مغلق. نعم، من الطبيعي-على حد تقدير التشبيه المعلوم- أن ننسى حاضر الحزب لنفتح معه صفحة جديدة، بعدما كان طبيعيا أن نستمر في التعامل معه وتحمله بعد أن طوينا صفحات ماضيه. لا نحتاج إلى التعمق في علم الحفريات التاريخية لنكتشف أن فلسفة الرشوة والمحسوبية والزبونية ليست غريبة على الحزب لا قبل الاستقلال ولا بعده. فلقد حرص منذ تأسيسه عام 1943 على رعاية مصالح البورجوازية. وكان تحالفه مع المؤسسة الملكية ونبذه لحركات الكفاح المسلح وتفضيله لمنعرجات المفاوضات ومسار التنازلات إبان الاستعمار اختيارا استراتيجيا تفسره خلفية أعضائه الفكرية والثقافية والتربوية والتأطيرية التي غلبت عليها مأدبات خاصة القوم وصالونات الأدب وحفلات الملحون والطرب الغرناطي. واستمر في تحالفه مع الملك ضد مصلحة الشعب بعد الاستقلال بسبب تعطشه للسلطة التي كان يحلم باقتسامها مع البلاط بالليل والنهار. لكن المؤسسة الملكية كما بدا جليا بعد ذلك كان لها رأي مخالف. حرص حزب الاستقلال على الالتفاف على أحقية الطبقات الشعبية بحكم نفسها بنفسها في دارة من الدارات القصيرة التي لا تخفى عليه أسرارها. فخطف ثمرة نضال شعب ضحى بأرواح كتائب من الشهداء في حرب التحرير بادعائه الباطل والانتهازي بأنه كان سباقا للدعوة إلى الكفاح المسلح !؟ كما أمعن بعيد الاستقلال في التقرب للملك حرصا منه على احتكار الامتيازات. وطبع بطاقات المقاومين كما تصك دار المال العملات، ليوزعها على أعضائه وأسرهم ولمن يدفع أكثر في سوق المقاومة الدونكيشوتية، بعد أن استبسل في تصفية المقاومين الفعليين وعناصر جيش التحرير في برودة وحشية واستماتة بربرية. عباس مسكين فعلا ومظلوم قطعا. تتعرض له صفحات الصحافة الجائرة بالاعتداء في كل يوم وتغتال شخصيته في كل افتتاحية، وكل ذنبه -وهو الرجل الوطني المحافظ- أنه يكرس سياسة تبناها الحزب منذ ما يناهز ستة عقود؛ بخدمة الأقرباء والأغنياء والأقوياء، وتهميش الضعفاء واستفزاز كرامتهم بالاستخفَف من ذاكرتهم وتسفيه عقولهم وتخذير وعيهم. أما أحزاب اليسار التي تدعي في خطاباتها وبرامجها وتسمياتها تبني الدفاع اللامشروط عن قضايا القوات الشعبية والطبقات الكادحة، فلقد تم تحييدها بصفة حاسمة في سنة 1963 بتهمة التآمر المفبركة على حياة الملك، قبل تصفيتها بشكل نهائي فيما بعد، حتى لم يعد (يسار الكافيار) الجديد يسد رمق القوات الشعبية بعلب السردين القديمة المنتهية صلاحيتها. ويذكرنا اليوم (حزب المصباح) على لسان أمينه العام (الملكي أكثر من الملك) في دفاعه الوسواسي القهري عن الملكية بمناسبة وبدون مناسبة ببدايات حزب الاستقلال الذي سبقه للعبة التحالف مع القوي ضد مصلحة الضعيف؛ بمدة تعود لحقبة جيولوجية أخرى وسنوات ضوئية تسافر بالحزب ومصباحه إلى كوكب آخر في مجرة أخرى. يصر الرجل على أسلوب حلقة الجهلة وأشباه الأميين والتهريج القديم والنكتة السخيفة التي لا تضحك إلا صاحبها، أو لعله يتظاهر، ليصيح بصوته الجهوري في حشود المتفرجين وجموع الفضوليين أنه لا يريد إلا خدمة البلاد لأن الشعب يستحق ذلك؛ في ديماغوجية صريحة تذكرنا بإعلانات (لوريال-لأنك تستحقينه). يقول أن جماعته كانت تقرأ القرآن وتستشهد بأقوال الرسول وأن رؤوسها كانت ساخنة قبل أن تبرد. ننصحه، وقد وجد ضالته في برودة الرأس، بأن يستمر في عملية التبريد حتى يصل برأسه إلى درجات كريوجينية تدخله في سبات شتوي، نتمنى أن يمدده لباقي فصول السنة فيريح نفسه ويريحنا وحزبَه معه. وحتى نستكمل كلام الماضي والحاضر وقَصص العودة للمستقبل، لابد من الحديث عن منظمات حقوق الإنسان وهيئة الإنصاف والمصالحة التي من حقها أن تحتار في اجترار أرشيف قضايا المفقودين وملفات فضائح المنبوذين. كما أنه من حق المواطنين أن يتساءلوا عن سلامة منطقها الذي يدعو لرأسمالية الربح واشتراكية الخسارة بدفع التعويضات من أموال الشعب الغارق في الديون، اللهم إذا كان هذا المنطق يعاقب الشعب (أو بعضه) على تواطئه مع المخزن بسكوته عن استبداده وغض الطرف عن تسلطه، في تجاهل تام لمسؤولية النظام الكاملة قاعدة ونخبة سفحا وقمة عما حدث ويحدث وسوف يحدث. لا يستغرب إلا سفيه أو أرعن من تقارير (هواة التحقيقات البوليسية والشرطة العلمية) عن عدم وجود شيء إسمه "معتقل تمارة"، بعد أن خرج علينا وزير الداخلية الراحل (إدريس البصري) في زمن سابق بقوله أنه لا وجود لتازمامارت إلا في خيال أعداء المغرب والحاقدين عليه، وادعى الحسن الثاني أنه لم يسمع عن قلعة مكونة إلا أخبار الخير والورد، وبعدما أخطرت (السلطات المسؤولة) المتخصصة في طرائف الدعابة السوداء المجتمع الدولي إثر إطلاق سراح أبراهام السرفاتي وترحيله إلى فرنسا، وسط ذهول المغاربة وقهقهاتهم الهستيرية، أنه واضع قنابل برازيلي. إنه (مغرب الحقد على المسؤولين وسوء النية) الذي يشكك في إنصاف لجنات تعينها الحكومة لمحاسبة الحكومة، ونزاهة مفتشين كلوا في البحث عما وصفته شرذمة من المراهقين كذبا وبهتانا بمعتقل تمارة، فلم يجدوا مكاتب رسم على أبوابها بخط عثماني بديع ولغة عربية فصيحة (غرفة تعذيب المعتقلين بدون سبب و السجناء السياسيين) و (برنامج التعذيب يوم كذا وكذا من ساعة كذا إلى ساعة كذا) أو (قاعة مداومة التعذيب خارج أوقات العمل العادية). لم يجدوا أثرا لأدوات التعذيب المختلفة أو كتب استعمالها. كما لم يعثروا على موسوعات تصف أساليب الاعتداء البدني و النفسي. إنه (مغرب السفاهة والغباء) الذي يبتلع في نهم أساطير منظمة العفو الدولية وحكايات منظمة مراقبة حقوق الإنسان المفبركة، كما يسرط بلعومه حلوى الباكلافا وراحة الحلقوم في شغف من صام ولم يفطر وذهب ولم يعد.