إن الكلام عن الإسلام المحمدي اليوم، من كونه الدين الحق، ليس أمرا سهلا البتة؛ لأن الواقع الديني العالمي، موهم بتعدد الأديان. والتعدد يعطي انطباعا، بأن من حق العباد أن يختاروا من بين مجموع الأديان، ما يوافق ميولهم وأمزجتهم. والحقيقة هي أن الأمر يحتاج إلى بعض التفصيل، حتى يمكننا البدء في الكلام، على أساس صحيح متين. أولا ينبغي أن نفرق بين الأديان الربانية، والأديان الوضعية. ونعني بالأديان الربانية هنا الشرائع الربانية؛ وإن كان الدين الرباني في حقيقته واحدا، لا يتعدد. وهذا تساهل منا في العبارة، نبغي من ورائه مجاراة التصورات الشائعة التي للدين في الأذهان. وعلى هذا، فإن اليهودية والنصرانية والإسلام، في أصلها دين واحد، مع شرائع مختلفة. واختلاف الشرائع، ليس إلا مظهرا لتطور الدين عبر الزمان. والتطور يعني السير بكمال الدين، في اتجاه الكمال التام، الذي لم يبلغه الدين إلا مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الذي هو النبي الرسول ب"ال" العهدية، كما ذكرنا ذلك في سلسلة "إعادة نظر". وأما الأديان الوضعية، فهي الأديان التي لا يتبع أصحابها وحيا إلهيا؛ وإنما يشرعون لأنفسهم طقوسا يتعبدون بها الله، بحسب ما يدركون. ولا يقدح في هذه العبادة من وجهها الباطني، أنها لإله سوى الله بحسب الزعم؛ لأن الاختلاف في الاسم، لا يعني حتما الاختلاف في المسمى. وقد ذكرنا سابقا، أن مسمى الأسماء كلها، هو الاسم "الله"؛ فليُعتبر هنا. ومما سبق، يتضح أن العالم كله عابد لله؛ إلا أن من العابدين من يعلم أن الله معبوده، ومنهم من لا يعلم. وهذا يجرنا إلى الكلام عن الإسلام العام، والإسلام الخاص. ونعني بالإسلام العام، ما عليه كل العالم من عبادة قهرية، لا يتخلف عنها مخلوق من المخلوقات قط. ونعني بالإسلام الخاص، الإسلام الشرعي، الذي تترتب عليه سعادة العباد في المآل. وقد ذكر الله صنفي الكره (القهر) والطوع (الاختيار) من الدين، في قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83]. يُفهم من هذا، أن إطلاق صفة "لا ديني" على بعض الناس، هو مجانب للحقيقة التي هم عليها. ولا يلزم من عبادة الإنسان القهرية لله، أن يكون على عباداتٍ نظيرَ ما للدين الطوعي من شعائر؛ بل إن هذه العبادة ذاتية، يكون الناس عليها في جميع أحوالهم، بغض النظر عن حسنها أو قبحها من جهة العقل. وهذا يعني أن عتاة المجرمين وكبار الكفار، لا يخرجون عن عبادة الله من هذا الوجه الباطن. أما الإسلام الطوعي، فهو المعلوم لدى الناس أجمعين ب"الإسلام". وهذا الإسلام، لا بد فيه من اتباع الوحي المنزل من عند الله؛ ولا بد فيه من أداء الشعائر على الوجه المسنون. ويدخل في هذا الإسلام، كل من كان متبعا لرسول من الرسل عليهم السلام في زمانه. نقول "في زمانه"، لأن الشرائع الربانية متطورة كما ذكرنا. وهي بهذا، لا يمكن أن تستغرق الزمان كله؛ إلا الشريعة المحمدية، فإن لها من الزمان، مِن زمن البعثة الشريفة، إلى قيام الساعة. وليس هذا، إلا لأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو الرسول بالأصالة وحده، من دون جميع الرسل. وعلى هذا، فإن كل من يتبع اليوم رسالة غير الرسالة المحمدية الخاتمة، فهو كافر، قد فارق طريق رسوله المتبوع حقيقة، وإن كان يتوهم أنه له تابع. والسبب دائما، هو تطور الشرائع، الذي يسير في اتجاه خط الزمان، لا بعكسه؛ ولا هو متوقف عند مرحلة زمانية بعينها، لعدم توقف الزمان عينه. وقد اختلط هذا الأمر على كثير من أهل الأديان، كما اختلط في زماننا على كثير من المسلمين، الذين أدركوا زمن الجفاف الفقهي، الذي صار سمة لعصرنا من غير شك. إن التفريق بين الإسلامين: الطوعي والكرهي، لا بد منه للعبد حتى يعلم موقعه من خارطة التدين في العالم. وهذا يجعلنا عندما ندعو الناس إلى الإسلام، نوقن أننا ندعوهم إلى مطابقة ظاهرهم لواقع حالهم فحسب. نعني من هذا، أن الإنسان المسلم، لا يختلف عن غيره من الناس، إلا من حيث كونه على توافق بين حقيقته وظاهر أمره. وأما غيره، فهم يعيشون تمزقا مؤلما، رغم ما هم عليه من عبادة ذاتية؛ لأن المطلوب، ليس هو أن يكون المرء على عبادة؛ وإنما أن يكون على وعي بها، وعيا حقيقا مطابقا، لا موهوما. ولو أن الناس علموا ما ذكرنا، لسعوا إلى الإسلام سعيا، من تلقاء أنفسهم. وأما المسلمون، فعليهم أن يعلموا عموم حال الإسلام لكل العالم، حتى يوسعوا إدراكهم لدينهم، الذي لا يُمكن أن يُنظر إليه على أنه دين من بين مجموعة أديان قط. ولا ينبغي أن يُفهم مما نقول أننا ندعو إلى وحدة الأديان، لأننا -ببساطة- لا نعرف للعالم إلا دينا واحدا، قد اختلفت صوره من جهة التشريع بحسب مراحل التاريخ، دون أن تتغير حقيقته أو يتبدل جوهره. كُتب هذا المقال بعد مضي أكثر من شهرين من السنة الثالثة من الاعتصام المفتوح للشيخ وأسرته، بسبب اضطهاد الحكومة وأجهزتها الذي ما زال مستمرا إلى الآن.