بسم الله الرحمن الرحيم. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه. لقد عودنا الوهابية كراهية الأولياء على التعميم، وعرفهم بذلك في البلاد الخاص من الناس والعام؛ ولكن الجديد، هو تطاول أحد تلاميذهم في الأيام الأخيرة، على شيخنا وعمدة أهل الله في زماننا، سيدي حمزة بودشيش رضي الله عنه. وأنا بردي هذا على القباج، لا أريد أن أفتئت على إخواني من الطريقة البودشيشية، ولا أن أنافح عن شيخي وهو الغني عني؛ وإنما أريدها شهادة لله أدخرها عند ربي، لرجل لم يعرف بعض أهل بلده قدره؛ وهو من يحفظ الله به بلدنا غيبا وشهادة. غيبا، بما آتاه الله من مكانة غيبية؛ وشهادة، بعمله الدؤوب على إشاعة المحبة واستيعاب المخالفين. وإني ما تكلمت حتى تكلم إخواني، حفظا للأدب معهم، بوصفهم المعنيّين الأولين. وأرى أن السكوت عن مثل تلك الأباطيل، لا يجوز ولا يسوغ؛ رغم ما أعانيه في هذه الفترة من متاعب صحية. إن سيدي حمزة حري به أن يُشكر، وأن يُتقرب إلى الله بمرضاته، وهو من يدل على الله بكل ما آتاه الله، ويتحمل في سبيل ذلك ما تعجز عنه شم الجبال من أعباء. وإن كان القباج يجهل مكانته، فإننا نخبره خبر من خالط الرجل زمانا، فنقول: إنه والله وارث من أكابر الوارثين للنبوة؛ تفضل عليه ربه بأن كان سمعه وبصره ويده ورجله، فكان ربانيا لا ينطق إلا بالله، ولا يرقب أحدا سواه. ولقد منّ الله علينا بحياة القلب على يديه الشريفتين، بعد أن كنا على خطر. وما عرفناه إلا محبا لجميع المخلوقات، عارفا لحقوقها، ساعيا إلى نفعها علمت بذلك أم لم تعلم. ولو أردنا تتبع مناقبه -رضي الله عنه- لتطلب منا ذلك مجلدات، ونحن نروم هنا الاختصار. على أن المناسبة تقتضي منا تتبع رسالة القباج بألفاظها، لفضح جهل صاحبها وجهالته، من باب المنهجية العلمية لا غير. وها نحن نعرضها فقرة فقرة، بحسب ترتيبها، والله وحده الموفق للصواب وحسن الخطاب: يقول القباج: [أيها الشيخ الموقر: أنا متأكد أنك تعلم يقينا أن ما يجري هذه الأيام في زاويتك لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا صحابته ولا الإمام مالك وغيره من أئمة الإسلام.. فإن قلت إن ما تفعلونه من الدين؛ فلماذا لم يفعلوه؟]: إن القباج يشير في هذه الفقرة، إلى مظاهر الفرح بالله ورسوله، التي يراها الناس في الزاوية أيام عيد المولد النبوي الشريف. وإنّ جزمه بأن هذا الفعل، لم يفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا إشكال فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ليس له أن يفرح بنفسه (على الأقل من حيث الظاهر)؛ بل على أتباعه المسلمين ذلك، وأن يعرفوا نعمة الله فيه. وهذا هو ما يقوم به المريدون، كل على قدر علمه وفهمه. وأما الصحابة رضي الله عنهم (نعني الكبار على التخصيص)، فقد كانوا يتنفسون محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم صباح مساء. وعلى هذا، فلا يُمكن أن تُقارن إليهم أجيال المتأخرين، الذين يفرحون، متى حلت مناسبة أو دُعوا إلى ذكر. هيهات هيهات!.. وأما الإمام مالك، فلا يُستدل به في مثل هذا المقام، لأنه لم يكن من العارفين؛ وإنما هو من أئمة أهل الفقه الظاهر. وهو -رضي الله عنه- وأمثاله، لم يكونوا يجترئون على خواص هذه الأمة؛ بل كانوا يقفون عند حد ما يعلمون ولا يتجاوزون. وهذا لعمري، هو الفقه حقيقة! أما إشارته إلى الرقص، على ما فيه من خلاف، وإنكاره أن يكون من الدين، ففيها تدليس: ذلك لأنه لا أحد قد جعل الرقص عبادة محل عبادة شرعية قائمة، كالصلاة أو غيرها. والراقصون لم يكتفوا بالرقص عن العبادات؛ وإنما هم كسائر المسلمين فيها، وزادوا عليهم بما ذُكر. وحكم الرقص على العموم الإباحة؛ ويدخل فيه رقص المفاخرة عند الحروب، ورقص الفرح عند مناسبات الزواج والولادة وغير ذلك. أما المحرم منه، فهو رقص الفجور وحده، الذي يتقرب به أهله إلى الشياطين؛ والأعمال بالنيات كما هو معلوم. وأما رقص الفرح بالله ورسوله، فلا يملك الورِع حياله إلا أن يخرس، هيبة لله ورسوله. فإن كان الراقص صادقا، فإنه يُغبط على ما رُزق من محبة، ممن لم يُرزق؛ وإن كان غير ذلك، خُلِّي بينه وبين ربه، يحاسبه على دعواه؛ فإن الموقف عظيم، والموقوف بين يديه عليم خبير. وعلى هذا، فإن سؤاله: لماذا لم يفعلوه؟ لا محل له؛ وإنما يُقصد منه التلبيس على غير العالمين. ثم إن هذا الرقص، لو كان دينا عند أصحابه، كما يزعم صاحبنا، لطالبوا به كل منتسب كما هو جلي، ولألزموه به؛ والأمر على خلاف هذا، بلا أدنى ريب. ثم يقول: [وإن لم يكن من الدين؛ فلماذا تُوهِم الناس أنه من الدين؟! حتى أن مريديك يعتقدون أنه عين الدين الذي يعرف بالله تعالى ويحقق محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحقق الوسطية والاعتدال في التدين! أذكرك بقول إمامنا مالك: "وما لم يكن يومئذ دينا فلن يكون اليوم دينا"، وبقوله رحمه الله: "أي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم"]: إن سوء الظن الذي يظهر من الخطاب، واتهام المخلَصين بإيهام الناس، لا يدل إلا على بعد صاحبه عن ربه، وغفلته عما يعتمل في صدره من الموبقات. ولو علم المتكلم أن صحبة أمثال سيدي حمزة، هي دواؤه، لمات خجلا من نفسه، وتمنى أن تنشق الأرض فتبتلعه. وفي مثل هذا، يصدق قول الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]. وأما ذكره معرفة الله، فهو من التدليس؛ لأنه لا يعرف الله، ولا الطريق إلى معرفته. وكلامه عام، لا يُعتبر عند أولي العلم. واستشهاده بأقوال الإمام مالك، هو في غير محله، لأمرين: الأول، لأن أمثال الشيخ حمزة رضي الله عنه، حجة في المعرفة على مالك وأمثاله؛ والثاني، أنه يضع أقوال مالك في غير موضعها. فهو عند إيراده القول الأول، يجهل أن مالكا كان يعني الشريعة فرضا وسنة؛ ولم يكن يقصد ما يتعلق بالقلوب من فقه، لا خبر للقباج عنه. ولو كان القباج ونظراؤه يعلمون أن للقلوب فقها وفرائض وسننا، لسكتوا عندما يتكلم أهل الاختصاص فيها؛ ولكنه الجهل المركّب! وأما القول الثاني، فإن أصحاب الطريق يفضلون أن يُقطَّعوا إربا، على أن يخطر لهم مثل ما ذُكر من جرأة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. كيف، وهم لا قُربة لهم إلا تعظيمه وتوقيره! وإن كان للإيهام محل هنا، فهو من القباج الذي يزعم أنه على السنة، وهو يعادي من نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن معاداتهم من الأولياء. فإنْ زعَم أن ولاية سيدي حمزة لم تبِن له ولا عرفها؛ فإننا نقول له، ما ذلك إلا لعمى بصيرتك، وإخطائك الطريق؛ طريق السنة المحمدية حقيقة!.. ثم يقول: [ما يردده مريدوك وما يعتقدونه مضر بك وبهم؛ وفيه من الخرافة والبدعة والتقول على الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى دين الله ما يندى له الجبين..]: ويحه! كيف بلغت به الجرأة، أن ظن في نفسه تعليم الشيخ ما يصلح له ولمريديه!.. ولا سند له إلا جهله وخُلوّه من الإيمان. {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]. لو كان المتكلم مؤمنا، لراعى نسبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ورثته، الذين صار لحمهم ودمهم نورا من نوره!.. عن أي خرافة يتكلم هذا القزم وعن أي بدعة؟!.. أفلما صار له ولأمثاله في غفلة من الزمان، منابر يتكلمون عليها، ظنوا أنهم بلغوا مراتب الرجال؟!.. إنه والله ومن معه، من دلالات اقتراب الساعة، حين يتخذ الناس أئمة جهالا، يَضلون ويُضلون. لو كان الكلام بحسب علم المرء، لكان المتكلم الشيخ حمزة وحده في كل العالم؛ ولخرس القباج دنيا وآخرة؛ ولكنه مرج الدنيا المريجة، التي يُخفض فيها الرفيع ويُرفع الوضيع!.. والحكم الحق للآخرة، حيث يلحق كلٌّ بمكانته، وهو (أي حكم الآخرة) قريب ليس ببعيد!.. أما الغيرة على الدين، فتقتضي علما به من جميع مراتبه وشعبه؛ وهو ما لا خبر للقباج عنه. ولكنه يلبس لباس زور، يتقرب به إلى العباد، ويتبغض به إلى رب العباد. فهو الأجدر أن يكف عما هو فيه من سوء، وأن يعود إلى الجادة؛ بل إنه الأجدر بالتوبة على أيدي أصغر مريدي الشيخ، إن قبِله!.. أي دين هذا الذي يصير به الناس فراعنة، لا يعرفون لكبير معه منزلة!!.. ثم يقول: [لقد اجتهدت في تجريد نيتي من وارد الرياء أو السمعة؛ لأخلص النصيحة لك..]: ويحه! لقد عمي حتى صار يرى الأمور معكوسة!.. ونحن نجزم أنه لا علم له بالنية ولا بأمراض القلوب من رياء وسمعة؛ لأنه لو كان له ذلك، لعلم أنه غارق فيها إلى أذنيه. وأما الشيخ رضي الله عنه، فقد تجاوز مرتبة التحلية في شبابه المبارك، وهو الآن على علم لا تطيق حمله السماوات والأرض. لهذا هو يطيل الصمت، ولا يتكلم إلا لماما. أستغفر الله من ذكر الأكابر في مقابل السفهاء!.. ثم يقول: [وهذه النصيحة الخالصة أنفع لك مما يريده منك النافذون الذين يخدمون بك أجندات معروفة ..]: جعل نصيحته خالصة، وكأنه يعرف نفسه!.. ولا هي نصيحة ولا خالصة!.. وإنما هو وحي من الشيطان أوحى به إليه، ليصيب مقت الله من أقصر طريق. ومن لم تكن له شفقة على نفسه، فقد عدم أسباب النجاة!.. وليعلم القباج وكل من على شاكلته، أن من يتجرأ على أهل الله بما لا يليق، يُخشى عليه أن يموت على غير الملة، وإن كان من أكابر علماء الظاهر. ومن شاء أن يغامر بنفسه، فليفعل. وعن قريب ينكشف الغطاء بالموت، فيظهر للناظرين ما كان خافيا. ويحه! يظن أن أهل الله يكونون تحت تصرف العباد، والعباد في الحقيقة تحت تصرفهم. ويظن أنهم يأبهون لأحد من الخلق، وهم من لا يبرحون حضرة ربهم. كيف لا، وهم لا يسمعون إلا منه، ولا يكلمون إلا إياه!.. قبحا للجهل أيما قبح!.. ثم يقول: [فأعلن توبتك قبل مجيء رسول ربك؛ وادع مريديك إلى التمسك بالكتاب والسنة وهدي خير الورى عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم]: ويحه! لو علم من يكلم، لتمنى أن يخر عليه السقف أو يهوي في مكان سحيق!.. لا نراه إلا صبيا لم يحظ بحظّ من التأديب، يترامى على حكماء الرجال. ووالله إن لم يُسارع إلى الرجوع إلى صوابه، ليوشكن الله أن يأخذه أخذ عزيز مقتدر! ثم عن أي كتاب وسنة يتكلم؟!.. وهو لا يوقر من أُنزل عليه الكتاب ومَن سنَّ السنة، صلى الله عليه وآله وسلم؟!.. أيسابقون الناس بالتشدق الأجوف، الذي ليس تحته إلا النفاق!.. عن أي هدي يتكلم وهو لا يرى ببصيرته إلا الظلام!.. ثم يقول: [علمهم الصلاة والذكر وكل العبادات على طريقته صلى الله عليه وسلم؛ فهي الطريقة الوحيدة التي جعل الله فيها السلامة والنجاة والسلم والسلام والأمن والأمان. وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم]: هو هنا كمن يطلب من الرجال، أن يكونوا في الأمور على علم الصبيان!.. وما علِم المسكين أنه ما علم من الصلاة شيئا، ولا من العبادة!.. ومتى ذكر هو، حتى يدل غيره على الذكر!.. سبحان الله!.. {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: 50]. ثم يقول: [وهي نصيحتي لضيوف المغرب؛ الإخوة والأخوات الأفاضل الحاضرين في الملتقى السنوي للتصوف، وإخواني من مريدي الشيخ حمزة وفقه الله تعالى.. عليكم بالطريقة المحمدية المباركة؛ فإن المسلم شيخه الخليل وطريقته الدليل.. والحاجة إلى مربي معلم؛ يرشد إلى الخير ويعلمه ويربي عليه؛ لا يلزم منها الغلو في الشيوخ من علماء وأولياء]: لعل ما غاظه، هو إقبال الناس من المشارق والمغارب على أهل الله، يستمدون منهم النور، حين قبع هو وأمثاله في ظلامهم سامدين. أما الطريقة المحمدية، فهي الدين كله المستغرق لكل طرائق الأئمة ظاهرا وباطنا. ولا يجوز أن تُذكر الطريقة المحمدية في مقابل فروعها؛ بل لا يجوز ذكرها في مقابل شرائع الأنبياء السابقين إلا مجازا، لأنها المهيمنة عليها كلها. وأما نصيحته للمسلم فهي إبليسية؛ لأنها تقطعه عن المدد النبوي الذي هو مودَع عند شيوخ التربية الربانيين. وهل يعلم القباج عن التربية النبوية شيئا، حتى يدل عليها!.. وأما الغلو، فهو غلو الوهابية في ابن تيمية وابن عبد الوهاب؛ يرفعونهما إلى مصاف الأنبياء (وإن لم ينطقوا بذلك)، وهما قد أضلا كثيرا من الناس؛ بخلاف الربانيين، الذين يزداد المرء بتعظيمهم قربا من الحق وتنوُّرا. أم إن القباج صار يزن الأمور بعقله السقيم، فاستوى عنده ما لا يستوي عند الله. {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} [الرعد: 16]. إن ما رددنا به على حماد القباج، لم يكن كلاما في مقابل كلام؛ وإنما هو عن تجربة وذوق، خبرنا فيها واردات تعظيم أهل الله، وعرفنا من حقيقتهم ما شاء الله. ولقد قصدنا بهذا الرد الدلالة على الحق الذي عرفناه، خشية أن يحاسبنا الله على كتم علم علّمَناه، ومن تحت أقدام الشيوخ أخذناه. أعاذنا الله وجميع المسلمين من معاداة أهل الله، ورزقنا حبهم ونصرتهم وصحبتهم في الدنيا والآخرة. وصلى الله على سيدنا محمد نور الأنوار، ومهبط الأسرار، من له ازدانت العوالم تحببا، وله خضعت الجبابرة تهيُّبا، وعلى آله الداخلين دائرة قربه، المحتمين في حماه بنسبه، وعلى صحبه المتوجهين إلى وجهه الشريف في شهادته وغيبه، من أزل الزمان إلى آباد أبده. والحمد لله رب العالمين.