بتلخيص شديد، تمر البشرية من وضع حرج تنضاف فيه معطيات ومستجدات إلى الحصيلة القائمة، وذلك من خلال خمس حقائق مدوية: 1 . تصاعد وتيرة تقويض مناصب الشغل، مع النمو المتسارع للهشاشات الاجتماعية والتطور المذهل لأسبابها ومسبباتها والتوسع الملحوظ لمساحات الضحايا والمقصيين. 2 . ارتفاع سرعات الضغط المتزايد على الموارد الطبيعية والأوساط الحيوية، وتوسع لائحة الاستنزافات واضطرادها. 3 . الاستفادة المتنامية للمؤسسات المالية والبنكية من الإجراءات المتخذة على حساب أوسع الفئات، واستدراج الدولة ظرفياً، وليس استراتيجياً، لتدبير الأزمة. 4 . خضوع السياسة، بصفة تصاعدية وشبه شمولية، للرهان التجاري من خلال الامتثال لسلطة المال وأصحاب المصالح غير العامة أو المعممة. 5 . ارتباط المعرفة والعلم، من خلال البحوث وأسس الاختراعات، بالرهان المالي وبالتالي التجاري، وذلك باحتكار معارف الإنتاج وتعميم تلك المرتبطة بالاستهلاك. في هذا النسق المؤسس على الاحتكار مقابل الإقصاء، تتواصل عوامل الاختناق ويواصل العالم - موازاة مع ذلك - الاكتفاء بمعالجة الأعراض بالترقيع والبحث عن حلول في منطق وبمنطق إثارة المشاكل. وهكذا، يمكن توصيف ما يجري بالمرحلة الانتقالية المتسمة بنهاية فترة وبداية أخرى، مفتوحة على كل الاحتمالات، بالنسبة للفاعلين قبل المفعول بهم... لذلك، تعظم الحاجة وتتأكد المنفعة معاً، بالنسبة للمستضعفين من الدول والمجموعات والأفراد على حد سواء، إلى التعاطي الجدي مع «الأداة الديمقراطية»، وذلك بالارتكاز على مكتسباتها الثمينة، وبحمايتها من الانحرافات والتأويلات الخاطئة والمخطِّئة. إنه، بكل بساطة ووضوح، المجهود الفكري والعلمي الذي ينتظر المهتمين والفاعلين والمنشغلين جدياً بقضايا التقدم والازدهار الشامل والمستدام على الصعيد الكوني، وفي بلادنا بالدرجة الأولى. ولا بد، على هذا الصعيد وفي اتجاه البحث عن المخرج، من مراجعة واستصلاح المعادلة القائمة على وضع المال أمام الاقتصاد، والاقتصاد أمام السياسة، والسياسة أمام الأفراد، والأفراد أمام المجتمعات، وهذه الأخيرة أمام البيئة الطبيعية. فبالنسبة للبشرية، بأجيالها الحالية والمقبلة، تمر الحلول الموثوقة والمستدامة عبر جسر هذا الإصلاح العميق، في إعادة نظر فكرية مؤسسة على أحكام القوانين الأزلية، مع اكتساب القدرة على معالجة المسببات بدل الأعراض. أما بالنسبة للمجتمعات المتأخرة عن الركب المعاصر، على علاته، فلا مفر من الإقلاع عن الأوهام، بالشروع في الاعتماد على الذات ومراجعة الإطار الفكري والسياسي القائم على «الاستمرارية والتجديد» بالتعاطي الجدي والجديد مع «الأداة الديمقراطية». ثانياً: حان وقت الاستفادة من محاسبة من يحكم فعلاً لا شك أن الذهاب في هذه الطريق وفي هذا الاتجاه يستوجبه مقتضى إعادة البناء والتأهيل وصنع الجديد والتطلع إلى خلق فوائض القيمة المستدامة... إنه النهج المتوقف على استخلاص ثلاثة دروس: 1 . إن الانسياق المستمر وراء وصفات «النظام العالمي الجديد» سابقاً، بتزامن مع عجز هذا النظام عن حماية وإسعاف نفسه فبالأحرى مريديه وأتباعه، يُصَنَّف داخل جزء من الأوساط الغربية نفسها بالإدمان المرضي. 2 . إن الإمعان في اختزال «التمثيلية» ودور المؤسسات ووظائفها في «محاكمة من لا يحكم» تفادياً لمعاكسة أو معارضة أو محاكمة من يحكم فعلاً قد استنفد شروط استمراره ومدة صلاحيته، في أوائل القرن الواحد والعشرين على الأقل. 3 . إن استمرار التردد في اقتحام آفاق التغيير وخلق الجديد، بمواصلة الاطمئنان للاستمرارية والتجديد، يضيع على المغرب وكل المغاربة، أجيالاً حالية ومقبلة، العظيم من الفرص والوقت والجهد والطاقات. وفي المجمل، لقد حان وقت التعاطي الجدي مع الديمقراطية، وحان وقت العمل على هذا الطريق، بكل اختصار. ومن ثم، تبقى الترجمة العملية لمختلف النوايا المعلنة والوعود المعبر عنها والعناوين المطروحة، في مغرب اليوم والظرفية الراهنة، موصولة بضرورة تحيين مفهوم «الشعب الذي يحكم نفسه بنفسه» بما يؤسس لاستئناف المهام والأهداف الكبرى المحجوزة منذ نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، والانخراط الجماعي في بلورة المشروع البديل، الموثوق والسالك، إلى اكتشاف مداخل ومفاتيح التنمية المستدامة؛ النقيض الجوهري للنمو المتفاوت التأثير والتوزيع، اجتماعيا ومجاليا، وبين الأجيال الحالية والمقبلة. لذلك أيضاً، يحتاج المستضعفون والمستغَلون الظرفيون إلى تقوية ملكات التأكد والتيقن من جدوى صحوة موثوق في صحتها. في هذا المضمار، وبناء على ما سبق، تطرح الأسبقيات وتلخص على نحو استبدال «ديمقراطية السلطة»، المستقوية بإبعاد الشعب وإضعافه، ب«سلطة الديمقراطية» المبنية على إشراك الشعب في الحكم، وعلى كونه مصدر القوة، في مشروع التنمية المستدامة، قولاً وفعلاً، تفكيراً وممارسة. إنها الديمقراطية التي يفوض فيها القرار والتدبير معاً، تفويضاً ليس إلاَّّ، من طرف الشعب، في مملكة قوية وناهضة باستمرار، والتي يقبل فيها الحاكمون المفوَّضون سيف مراقبته اليقظة والصارمة في آن واحد، ويمتثلون فيه امتثالا لسلطة التحكيم المخولة لملك البلاد وضامن تناغمه، على قاعدة الدستور وثقافة الحقوق مقابل الواجبات والامتثال مقابل الاستحقاق والإنصاف. إن هذا الاستبدال، استبدال «ديمقراطية السلطة» ب«سلطة الديمقراطية» معناه، بل مبناه ومحتواه معا، وضع نسق من القيم والأفكار والتفكير محل آخر، سيما وأنه يلزم بسلسلة من الاستبدالات المترابطة، وعلى رأسها: يتبع