تقرير المعرفة بالعالم العربي، وضمنه المغرب أساسا، الصادر عن برنامج الأممالمتحدة الانمائي ومؤسسة آل مكتوم الإماراتية، صنف المغرب في المجوعة الثانية - بعد دجيبوتي وتونس، وليبيا، وعمان بنسبة 10 الى %17 في مقابل 21 الى %31 في مجال التحاق التلاميذ أو الطلبة بالتعليم العالي التقني ضمن النسبة الإجمالية لعدد الملتحقين بالتعليم الجامعي، كما أن التقرير ذاته أشار الى العديد من اختلالات ومشاكل أنظمة التعليم بالدول العربية منها وجود 9 ملايين طفل خارج أسوار المدرسة تتوزع بين 6بلدان عربية من بينهم المغرب. وإذا كان تقرير الأممالمتحدة هذا قد كشف عن العديد من المعيقات التي تحول دون خلق مجتمع معرفة حقيقي يؤهل بلداننا العربية نحو انطلاق نهضة علمية في مستوى التحديات المطروحة راهنا ومستقبلا، إن اجتماعيا واقتصاديا أو سياسيا أو ثقافيا، وإذا كان ذات التقرير قد ربط وبشكل جدلي تطور المعرفة وتنميتها بالشكل الذي يسهم في تحقيق النهضة الثقافية والعلمية (التي أضحت من ضرورات ليس فقط رفع تحدي التنافسية في شتى المجالات، بل تحدي البقاء والوجود ككيان دولتي) بإصلاح ثقافي وإرادة سياسة حقيقيتين، فإن ما تضمنه التقرير من معطيات وأرقام ومقارنات، ومقاربات وقراءات في واقع المعرفة ب 21 بلدا عربيا، يفرض علينا، النظر لطبيعة الموضوع المطروح ذي الصبغة الاستراتيجية الكبرى. إثارة العديد من الأسئلة ذات البعد المغربي أساسا منها: ما الذي راكمه نظامنا التعليمي في مجال إنتاج الأفكار والمعارف؟ هل أسهم بصيغة أو أخرى في خلق نوع من الثورة الثقافية بالقرى والمدن المغربية في أفق تأسيس بنية ثقافية متينة أو مظهرا من مظاهرها - قد تشكل منطلقا لإنتاج مجتمع المعرفة الذي تنمحي فيه الأمية بشتى تجلياتها، ويصبح فيه الحق في التعلم والتحصيل العلمي حقا مشاعا للجميع في كل مكان دون اعتبار للسن أو أي عامل معيق؟ لن أبدأ بمقاربة هذين السؤالين بالرجوع الى نظريات المعرفة وتشكلها باستقراء أو البحث عن الآليات المنهجية الممكنة مما جاء به أفلاطون وأرسطو وكانط وهاردغر وغيرهم من المفكرين في مجال المعرفة والعلم بالرغم من أهمية معرفة سياقات تطور المعرفة والعلم عبر التاريخ، وما لذلك من تأثير سلبي أو إيجابي في تكوين البنية الذهنية والعقلية للبشر أكانوا في قمة هذا البلد أو ذاك أو في سافلته، بل إن ما سنعتمده هو بسط للعديد من الوقائع التي تبرز الاختلال الواضح والبين في نظامنا التعليمي الذي من بينه أساسا الاكتظاظ الفظيع في الفصول الدراسية داخل المدن الكبرى من بينها مدينة الدارالبيضاء الذي يتجازو في أحايين كثيرة 40 تلميذا في الفصل، وعدم توافر العديد من المؤسسات التعليمية على المختبرات أو وسائل الإيضاح اللازمة في عملية التدريس وبخاصة في المواد ذات الصبغة العلمية. ولعل خير مثال يمكن الاستشهاد به على هشاشة وتردي النظام التعليمي بالمغرب، التقارير الصادرة عن الهيئة الوطنية لتقويم منظومة التربية والتكوين التي تشتغل تحت إشراف (المجلس الأعلى للتعليم)، وهذا مايمكن استنتاجه مثلا من بعض المعطيات التي تهم التحصيل في مادتي الرياضيات والحساب، فقد أشار أحد هذه التقارير الى أن % 60 من تلاميذ السنة السادسة ابتدائي لم يتحكموا بعد في عمليات الحساب». وعزت هذه التقارير، ولو تلميحا، أسباب هذا الاختلال في التعلم واكتساب المهارات الى النظام التعليمي السائد، مبرزة في هذا الصدد أن التعليم «الذي يعتمد على اكتساب وتراكم المعارف ينبغي أن يحل محله التعليم الممركز على الانخراط الفعلي للتلميذ في بناء معارفه وتطوير كفاياته»، ووقفت عند العديد من الاختلالات المنهجية التي تحول دون التحصيل المعرفي والعلمي اللازم منها الأدوات والوسائل التعليمية التي تسهم إضافة إلى عوامل أخرى، في صنع الملكات والمهارات لدى التلاميذ (ص: 26 من التقرير الخاص بمادة الرياضيات الصادر عن الهيئة المذكورة)... لقد كان معقودا على ميثاق التربية والتكوين الذي ساهمت في بلورته مختلف الفعاليات السياسية ببلادنا وكذا الخبراء والفاعلون في مجال التربية والتكوين في رقي النظام التعليمي بالمغرب، لكن الملاحظ أنه بعد مرور 5 سنوات ونيف، على بداية تنفيذه، لم يظهر أي أثر فعلي له، أو لنقل إن تنفيذه شهد تعثرا بسبب عوالم مختلفة منها «الإكراهات المالية» حسب ما صرح به رئيس لجنة التربية والتكوين وقته الأستاذ مزيان بلفقيه لجريدة «الاحداث المغربية». وقد جاء بعده ما سمي بالبرنامج الاستعجالي لقطاع التربية والتكوين الذي أثار «تحفظات» وتساؤلات في أوساط بعض الفاعلين الاجتماعيين. وقد خصصت في الآونة الأخيرة 12 مليار درهم لقطاع التعليم العالي من أجل تفعيل - حسب ما تم التصريح به رسميا - بعضا من أهداف البرنامج المومأ إليه، التي تتمثل في تطوير القدرات العلمية والمعرفية للجامعة المغربية وجعلها قمينة بمواجهة التحديات الوطنية والدولية، الراهنة منها والمستقبلية. لكن السؤال الأساسي الذي ظل ولايزال يطرح في مجال التعليم والثقافة بشكل عام منذ إجهاض تجربة الحكومة الوطنية التي ترأسها الأستاذ عبد الله ابراهيم بعد إحراز المغرب على الاستقلال، هل الخيارات أو المرتكزات التي تنبني عليها البرامج التعليمية الحالية تربط نهوض التعليم بخيارات أخرى أساسية ذات بعد استراتيجي بدلالات عميقة كخيار التصنيع، والتقدم التكنولوجي، والتنمية الثقافية العامة، التي تعني ضمن ما تعنيه، توظيف كل الوسائل لتنوير وتثقيف المواطن في أفق المحاربة الفعلية للأمية من مسرح، ووسائل سمعية بصرية وما إلى ذلك، والرفع من نسبة القراءة، وهي الخيارات التي تجعل بالضرورة المعرفة المكتسبة بالمدرسة عموما - وغيرها - في خدمة النهضة العلمية التي بدونها لايمكن البتة الحديث عن تنمية اجتماعية واقتصادية حقيقية ببلدنا، أو غيره من البلدان التي تسعى إلى تكوين اقتصاد وطني قوي متحرر من التبعية الخارجية. فهل تأخذ برامجنا التعليمية ضمن توجهها السياسي العام هذا الرهان الاستراتيجي الذي قوامه أساسا خلق رأسمال بشري - حسب ماجاء في تقرير المعرفة الأممي - بقدرات معرفية وعلمية قادرة على الخلق والإبداع التقني والعلمي، وعلى صياغة الرؤى والتصورات الرصينة في مختلف المجالات؟ هناك العديد من الملفات ذات الأهمية العلمية و الاستراتيجية الكبيرة التي تجعل الجواب بالإيجاب عن هذا السوال يظل، برأي البعض، معلقا الى حين، منها ملف الدكتور الصديق العزيز محمد أوهان، فهذا الرجل اشتغل طبيبا لعدة سنوات، وذهب لفترة معينة إلى إفريقيا حيث اشتغل بأحد هذه البلدان، ووكلت له في فترة من الفترات مهمة مستشار طبي مسؤول رفيع المستوى بدولة إفريقية. محمد أوهان هذا الرجل البسيط، الذي يتحدر من المدينة القديمة بالدارالبيضاء، والذي يشهد له الجميع بقيمه العالية، قضى فترة زمنية بالولايات المتحدةالأمريكية، ورغبة منه في المزيد من التحصيل المعرفي والعلمي، والبحث عن كل ما من شأنه أن يمده بإمكانيات الإبداع والخلق والاختراع، لجأ الى فنلندا، حيث حاز على دبلوم مهندس في التكنولوجيا الدقيقة، وهو الأمر الذي مكنه من الغوص في أبحاثه العلمية المستقبلية، والنتيجة هي أنه تمكن من اكتشاف تقنية جديدة في عالم (A.D.N) وهي التقنية العلمية الأولى في العالم، وقد نظم في هذا الإطار ندوة صحفية بالبيضاء عرض فيها فحوى اختراعه أمام الصحافة الوطنية، لكن اللافت هنا هو أن لا أحد من المسؤولين اهتم بذلك، باستثناء المدير العام للأمن الوطني وقتها الجنيرال العنيكري، الذي عبر عن امتنانه وافتخاره بعمل علمي من هذا القبيل. وإذا أضفنا إلى هذه الحالة حالة الشاب المغربي الذي كان عضوا بأكاديمية العلوم ببلغاريا والذي عرض مشروعا طاقيا على المغرب، بيد أن نداء هذا الشاب، الذي كان قد لقي ترحيبا من قبل مسؤول بدولة أوربية، لم يلق الصدى المطلوب بالمغرب، لا يمكن إلا أن نعيد تجديد طرح سؤال طالما طرح: هل يمكن الحديث عن تعليم قوي، دون ربط إصلاح التعليم بالإصلاح الثقافي، والإرادة السياسية، وهي المقاربة - ضمن أخرى - التي خلص إليها تقرير المعرفة الأممي الذي أكد على أن مجتمع المعرفة بشتى تفريعاته ومرتكزاته عماد النهضة العلمية المفترضة.. وأن تحقيق ذلك رهين بوجود إرادة سياسية حقيقية..فهل سنكون أمام مشاريع تعليمية تنتج هذا المطمح الاستراتيجي، .. أم سيكون مآل أمانينا إنتاج مجتمع البطالة والأمية والجهل.. أي تكريس التبعية والتخلف...!؟