محمد أمسكان استضافني داوود، العارف بتفاصيل ذوقي، في مطعم صغير موارى في زقاق عتيق ومعتم، متاخم لشارع بيل فيل الفسيح. في طاولة الشرب، يتذوق الزبائن «الكيميا» وأصنافا كثيرة أخرى من الأطباق الغريبة. أغلبية الرواد رجال، وهم يلعبون الورق فوق أغطية الطاولات الخضراء التي أحدثت فيها السجائر عدة ثقوب، ويحتسون كؤوس مشروب الأنيسون من نوع «فينيكس» تلو الأخرى. صوت رخيم يعطر المقهى. إنه يحتفي بالمكان و»موالين لمكان»، بالخيل و»السربات»، بالحب المستحيل وغير المشبع. بعد مدح الوالي مولاي ابراهيم، ينشد الصوت: «قالوا مراكش جاني بعيد/ فيه النخل وفيه الجريد». يصدح الصوت إذن بالعيطة، النمط الموسيقي المنغرس في تربة المغرب و»بلوز» الحوز وهضاب المحيط الأطلسي، الغناء الذي تذكر تأوهاته بتلك التأوهات الحاضرة في «الغوسبيل» و»المورنا» و»الفادو» و»الفلامنكو». جنس العيطة التي أتمتع بها هذا المساء مديني، يستعير من الشعبي الممدن ومن الملحون والموسيقى الأندلسية. أجهد النفس لمعرفة المغنية ذات الصوت المتواطئ معي، المسافر بي إلى مناطق وعوالم وأجواء مألوفة لدي. فشلت في فك لغز هوية المغنية، فتوجهت بالسؤال إلى أحد رواد المقهى المسنين. من أحد جيوب معطفه المطمورة، أخرج كيسا بلاستيكيا أسود اللون، أخذ منه شريطا موسيقيا وأهداني إياه قبل الانطلاق في سرد مجريات حياة المغنية. «لقد رأت النور في فاس، المدينة صاحبة الألف وواحد من القبور والمساجد والمعابد اليهودية. آذان المؤذنين، صلوات الأحبار، ابتهالات مريدي الطرق الصوفية، ومعها الطرقات المرتجة والموزونة التي كان الصناع التقليديون ينزلونها بالخشب والجلد والنحاس، كلها أصوات هدهدت طفولتها. وبفعل ذلك، كانت الطفلة السمراء ذات الشعر المجعد، السوداء العينين والوردية الخدين، تركض مغنية، صيفا وشتاء، عبر أزقة المدينة المقدسة. والله يعلم كم أن صوتها كان أجمل الأصوات!... وفي الرابطة اليهودية، حيث كنا ندرس، لم تكن تفلت أدنى فرصة للغناء. وكانت معلمتنا، سارة، تقول لها باستمرار: أنت، ستصبحين فنانة! لم تكن الزوهرة تحلم بغير هذا، بغيرأن تصبح مغنية كبيرة... في فاس، كان الغناء والموسيقى يحضران بقوة خلال إحياء كل المناسبات العائلية المهمة، وسواء تم توجيه الدعوة لها أم لا، كانت الزوهرة تواظب على الحضور إلى كل بيت يشهد تنظيم حفل. كانت تأخذ مكانها قرب الجوق، مما يدفع الحاضرين إلى طلب الغناء منها. وبهذه الطريقة، استطاعت حفظ كل الأغاني الرائجة حينذاك... وكل فصل ربيع، كنا نذهب ل «النزاهة» على ضفاف واد فاس، نهر الجواهر، وفي بساتين جنان السبيل. وبعد التمتع بما لذ وطاب من الطواجن اللذيذة المختلفة، المصحوبة بكؤوس الشاي المنعنع والماحيا، كنا نخصص الزوال للاستماع إلى الموسيقى الأندلسية، الملحون، العروبيات، الأغاني الكلاسيكية المصرية والأغاني الجزائرية والتونسية الخفيفة. كانت آلات «الغراموفون» حديثة العهد في المغرب، والمولعون يتبادلون أسطوانات 85 لفة...» الصوت الرائع مستمر في سحر المكان. ها هو يحتفي، بعد مراكش، بفاس: «مازال ما نسيت الجلسة دْ فاس/ الخلع وجريع الكاس والعين الكحلة إيجرحو لكبيدة يا ناس/ كلشي بالقاعدة». مثل كورال، يردد جميع رواد المقهى الكلمات، ممسرحين إياها. وتظل «الجلسة دْ فاس»، التي غناها نسيم النكَاب، رينيت الوهرانية، ليلي العباسي، بلون- بلون وبوطبول، إحدى اللازمات الأكثر رمزية ضمن المتن الغنائي اليهودي-المغاربي. إنها لازمة ملؤها الحنين، ولذا فهي تعيد الحياة، في المهجر، لبلد الأصول، للفردوس المفقود. «ذات صباح، غادرت الزوهرة فاس للذهاب إلى الرباط حيث استقبلتها إحدى أكبر عائلات الأعيان. كان رب العائلة ولوعا بالموسيقى وعاشقا للحفلات، وكانت له أربع زوجات، ثلاث من ضمنهن موسيقيات تتقن كل واحدة منهن نمطا موسيقيا والعزف على إحدى الآلات. لقنت النسوة «ضيفة الله» مختلف أشكال الغناء الكلاسيكي والشعبي، المغربي والجزائري والتونسي. وبعد الرباط، استقرت الزوهرة في الدارالبيضاء، بزنقة الإنجليز. كان المسلمون واليهود يفسحون لها الطريق احتراما كلما مرت في حي فردان أو المدينة القديمة... ولأنها أول مغربية، كاتبة كلمات وملحنة ومطربة، تؤسس فرقة موسيقية خاصة بها، فقد كانت تشارك في كل المناسبات العائلية والوطنية. لم يكن بالإمكان، أيامها، تخيل عرس زواج في غياب جوق الزوهرة! كانت رائعة وهي تحيي السهرات، عازفة على «الطر»، آلة قادة الأجواق بامتياز، وراقصة تردد «العروسة»، الأغنية التي استحالت شعارا للزيجات المغربية: «يا ناس، يا ناس قولوا برافو/ على العروس وعلى اصحابو/ فتش على الزين حتى صابو/ فرحوا لو جميع احبابو». وأثناء «الغْرامة»، كانت تنادي المدعوين بأسمائهم العائلية، مادحة وشاكرة إياهم. كان الواحد منا يأتي من أماكن قصية قصد حضور حفلاتها، ولكن كذلك قصد التمتع بجمالها: اللباس! الشعر! والشامة! والابتسامة المدمرة ! أعترف أنها كانت تسكن قلوبنا جميعا... وبفضل نجوميتها، كان راديو المغرب يبث أسطواناتها المسجلة، ابتداء من عشرينيات القرن العشرين، لدى شركات كولومبيا، غراموفون، باثي ماركوني، فيلبس و بوليفون... هذا، وأتذكر أنه، بمناسبة الاحتفالات باستقلال المغرب، غنت الزوهرة، وهي تشارك في سهرة بمعية سامي المغربي، أغنية «الملك بن يوسف». ألهبت المقطوعة تلك، حول محمد الخامس، الجمهور الحاضر لدرجة يعجز اللسان عن وصفها، بل إن جدران سينما روايال اهتزت بفعل ذلك الفرح العارم... في الستينيات، رحلت الزوهرة إلى إسرائيل، حيث ظلت تمضي أيامها وهي تخمر ذكرياتها، بعد أن تسرح شعرها وتضع عليه تاجا، وتتزين وتلبس أبهى قفاطينها. مكثت محاطة بالدمى والأواني المزخرفة، وكانت كلما التقت نظرتها مع النظرة المنبعثة من صورة العاهل محمد الخامس المعلقة في الصالون، تردد إحدى أغاني المدح التي خصصتها له. إن صورة وذكرى هذا الملك العظيم هي الأواصر التي تجعلها مرتبطة بوطنها الأصلي، المغرب، أرض أجدادها...» وهو ينهي حكايته، ذرف شلومو دموعا غزيرة لأن الزوهرة الفاسية غادرتنا. فصل مترجم بتصرف من كتاب سيصدر قريبا بالفرنسية.