سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
شيدتها مؤسسة محمد الخامس للتضامن ودشنها جلالة الملك رمضان الماضي .. دار عجزة حي النهضة بالرباط : تسيب في التسيير ومحسنون يقدمون الهبات للنزلاء دون أن تصل إليهم
تتحدث السيدة العجوز بصوت خفيض. توزع نظراتها المتوجسة يمينا وشمالا، خائفة من ألا يصل صوتها إلى المستخدمين. تقول بما يشب الهمس: «سيكون الانتقام فظيعا». على ملامحها ارتسمت كل علامات الحنق والإذلال، وبالأخص علامات توشر على نهاية حياة صعبة ومؤلمة. كانت نظرتها شاهدا على الوهن الشديد. طبيعي أن يكون صعبا عليها أن تكافح وهي في تلك السن، وبدون بيت ولا أسرة. تعيش منذ بضعة أشهر في مبنى جديد تابع لدار العجزة بحي النهضة بالرباط. هذه البناية التي تم تشييدها برعاية مؤسسة محمد الخامس للتضامن، ودشنها جلالة الملك محمد السادس قبل عام، وبالضبط في أول أيام شهر رمضان المنصرم. يعيش اليوم 21 شخصا في هذه الدار، تسعة منهم من النساء، وبالنسبة للسواد الأعظم منهم، فإن هذه هي المرة الثانية التي يقضون فيها شهر رمضان في رحاب هاته الدار. يحاول أحد النزلاء بصعوبة أن يرسم ابتسامة باهتة على وجهه وهو يقول: «لقد تغيرت الأمور هنا بشكل فظيع». ثم يستطرد قائلا: «في بداية الشهر الكريم كنا نتناول الحريرة مرتين في الإفطار، أما في الأيام الأخيرة، فقد ظلت الوجبات ثابتة: حساء البلبولة، وطبق الأرز في العشاء»، هذا رغم أن المحسنين يزودون الدار بالخضر وبباقي المقومات التي يتطلبها تحضير الحريرة. مواد غذائية لا تجد طريقها إلى موائد النزلاء بتنهيدة عميقة تقول نزيلة أخرى: «نشاهد صناديق الخضر تمر أمامنا، لكن نادرا ما تجد طريقها نحو موائدنا». وإذا حدث ووفر النزلاء بضعة دراهم يجود عليهم بها أحد المحسنين، تراهم يغادرون الدار نحو بقال قريب ليشتروا ياغورت وقطعة من الفاكهة لتناول وجبة السحور. يحدث هذا مع العلم أن الدار تتوصل بالمئات من كؤوس الياغورت وكمية من الأحذية، لكن لم يحدث قط أن حظي النزلاء بحصتهم منها. وحتى المطبخ الذي يبدو مزودا بأفخر التجهيزات المطبخية، فالزائر يقف مشدوها أمام حجم التخريب الذي لحقه وافتقاده لأبسط الشروط الصحية. أطباق لا يزال محتواها من الأرز المتبقي من اليوم الفائت ظلت تراوح مكانها، وفي أحد أركان المطبخ، كان ثمة كيس من الشباكية مرمي فوق الأرض، على ما يبدو أنه كان هناك منذ عدة أيام، وغير بعيد عن هناك، تم وضع صندوق كارطوني مليء بالخبز اليابس، أي أنه سيكون في وقت قريب طعاما للنزلاء الأحد والعشرين، نزلاء متقدمون في السن، يصومون جاهدين من بزوغ الفجر إلى غروب الشمس في ظروف صعبة. وخارج المطبخ أثار انتباهنا ممر وُضعت ثلاجة تضيق بحوالي مائة كأس ياغورت من مختلف الأنواع والأشكال، أتى بها أحد المحسنين ووهبها للنزلاء، الذين يعيشون في هذه البناية بدل العيش على أرصفة الشوارع والأزقة. تقول سيدة عجوز: «لم نذق ولو كأسا من ذلك الياغورت، والمرة الوحيدة التي قدموه لنا فيها، كان فاسدا وانتهى تاريخ صلاحيته. لم يكن أمامنا أي خيار آخر، فقد كان الجوع يقطع أوصالنا، فأكلناه...». لماذا لم تصل تلك الكمية من الياغورت إلى مستحقيها؟ لماذا ظلت حبيسة الثلاجة؟ قد لا يتطلب البحث عن الإجابة جهدا كبيرا، لأن الأمر في غاية البساطة، بل وفي غاية المرارة أيضا. فكل يوم تختفي حصة النزلاء من الياغورت من الثلاجة، لكن دون أن تصل إليهم. الكلام المتداول هنا يفيد بأن تلك الحصة يتم تقاسمها بين موظفين بالدار!! وفي فترة سابقة، تبرع أحد المحسنين على نزلاء الدار من الرجال المسنين بكمية من الأحذية الرياضية. غير أن مصير تلك الأحذية لم يكن ليختلف عن مصير كؤوس الياغورت. فما أن تتجاوز تلك الهبات والعطايا بوابة الاستقبال بالدار، حتى تعبث بها الأيدي لتحول وجهتها إلى مكان آخر. يقول رجل مسن، لا تاريخ ميلاد له، بنبرة هجرتها الابتسامة منذ سنوات عدة: «يحدث أن يقوم المحسنون بالتأكد من أن عطاياهم وصلت إلينا. وفقط أشجعنا هم الذين يجرؤون على قول الحقيقة، حقيقة كوننا لم نتوصل بأي شيء. في غالب الأحيان لا نقول شيئا مخافة أن يتم نقلنا إلى مركز عين عتيق». في السابق كان هذا الرجل يحافظ على رباطة جأشه، ولا تفارقه مسحة من الضحك، وكان يقول: «لن يحدث لي أسوأ مما هو واقع لي الآن». أما اليوم، فلم يتبق منه سوى ظل ذاك الرجل. والواضح أن الأسوأ هو الذي يعيشه في الوقت الراهن... «لا تشرح، لا تشتكي» .. التهديد بعين عتيق هنا، في هذه البناية الموجودة بقلب العاصمة، وغير بعيد عن الوزارات والمسؤولين، تجد أن الصمت هو القانون السائد، تماما كما كان عليه الأمر في «بيت الوندسور» ببريطانيا: «لا تشرح، لا تشتكي». الكل صامت إلا أولئك النسوة وأولئك الرجال، المتقدمين في السن، المتخلى عنهم والمتروكين لمواجهة أنفسهم ومواجهة الشارع، التشكي بالنسبة لهم يعني الانتقام،. والانتقام هنا يتخذ شكل بطاقة ذهاب إلى عين عتيق... ودون عودة. عين عتيق حيث يوجد مبنى شبيه بالسجن، يبعد عن الرباط ببضع كيلومترات، ويضم بين جدرانه المتسولين والمتسكعين، والمنحرفين الصغار وغرباء آخرين. والحياة هناك تسبب معاناة كبيرة بشكل بعيد عن كل مظاهر الإنسانية. المحسنون أضحوا نادرا ما يتوافدون على المبنى، في حين أن المشرفين على تسيير هذه الدار يشتكون من مشكل الميزانية. تقول إحدى المحسنات: «لا يمكن أن نأتيهم بالطعام والملابس، في حين لا تجد طريقها إلى مستحقيها الذين ليس لهم أي أحد في هذا العالم. قمت مؤخرا بتنظيم إفطار وعشاء لفائدتهم. أثارتني سوء المعاملة التي يتعرض لها أولئك الأشخاص المسنون. ولقد عاينت مشهدا فظيعا عندما قامت سيدة تعتبر نفسها مسعفة طبية ليلية بالاعتداء اللفظي على سيدة عجوز بعد أن انتزعت بغلظة شديدة فطيرة من بين يديها». على بُعد مرمى حجر من مقر العمودية بالرباط، تنتصب هذه البناية التي لم تعد فضاء للعيش والراحة بالنسبة لأولائك المسنين من الرجال والنساء الذين فقدوا كل شيء، باستثناء كرامتهم. لا يكفي هنا إجراء افتحاصات سنوية لحسابات المؤسسة أو إرسال مفتشين في تواريخ معلومة سلفا. الأمر هنا يتعلق بأشخاص لا يملكون من يدافع عنهم، أشخاص مسنين ظلوا صامتين فقط ليظلوا على قيد الحياة. المراقبة والتفتيش يتعين أن يتما على نحو مباغث ودون سابق إنذار. إنها ليلة حالكة السواد، نسمة خفيفة تهب على الرباط، النساء توجهن للنوم، في حين أن الرجال فضلوا تنشق بعض الهواء. لحظة عابرة من السعادة. ثمة بئر في حديقة الدار لم يمض وقت طويل على حفره. سيتم قطع الماء عن المؤسسة، وستستعين بمياه البئر لتعويضها. هل ستتم معالجة مياه تلك البئر بالشكل اللازم لكي تكون صالحة للاستعمال والاستهلاك دون أن تتسبب في مضاعفات على صحة النزلاء؟ إنه سؤال يحمل في جوهره نداء استغاثة يرفعه نزلاء دار العجزة بالرباط.