لا سبيل للوصول إلى البحر في مدينة آسفي الشاطئية إلا بالسفر خارج الحاضرة المحلية لبضعة أميال، إما التوجه إلى الصويرة القديمة (أكوز البرتغالية ) جنوبا، أو التحول إلى الشمال حيث مرقد بعض «الأولياء» .ك «للافاطنة» أو البدوزة شمالا .. في اتجاه الواليدية و قصبة أيير حيث التاريخ المهمش و المرمي على جنبات الطريق الشاطئية الرابطة بين آسفي و الجديدة ( !) .. في غيبة تامة لأولي الأمر الجدد الماسكين برقاب التسيير و رقاب العباد المزاليط . الهروب من الهجيع والحر القاتل الذي يلف صيف المدينة، لا يجد معه بسطاء الناس و أصحاب الدخل المحدود سوى التوجه إلى منطقة الكاب كانتان أو جماعة البدوزة كما تسمى حاليا، بعد استحالة التنقل إلى المصيف التاريخي المتواجد بجماعة المعاشات، ونعني به الصويرية القديمة التي حولها المضاربون إلى مجمع إسمنتي لا علاقة له بالمنتجعات السياحية، و تلك قصة أخرى منتجع الكاب أو البدوزة .. له تاريخ مجيد و موقع تليد في عمق المحيط الأطلسي، مرت منه و فيه العديد من الحضارات التي تركت بصماتها و لو في أوراق البحث و التنقيب التاريخي المتخصص .. حيث الرومان و القرطاجيون و الأفارقة الأقدمون و البراقزة ( البرتغاليون ) و العرب العاربة. كل المحكيات و الوثائق تؤكد أن المنطقة تاريخية و آخر مسؤول وقع في دفترها الذهبي هو أب الاستقلال الملك الوطني الراحل محمد الخامس طيب الله ثراه . كما حكى لنا أحد الباحثين الذي اطلع على توقيع محمد الخامس مقابل (زرقاء200 ) لتواجده بين يدي عساس بسيط بمنارة الكاب يريه لمن يريد مقابلَ مقابلٍ . و بعدها تراكمت على المنطقة الخيبات تلو الخيبات ، و انساقت البدوزة إلى كلام آخر عنوانه الفساد الذي أصبح الميسم الوحيد الذي يطبع هذا المنتجع التاريخي بحمولته الثقافية و الحضارية المتلاشية . كيف ذلك ؟ حج المسكين !.. أول شيء ارتبط بالبدوزة أو الكاب كانتان كما ورد في بعض الدراسات الكولونيالية هو "حج المسكين " الذي يقام يوم عرفة عشية كل أضحى مبارك ، حيث يسري الناس إلى مرقد أحد الأولياء الذي يطلق عليه "سيدي شاشكال" ، الملتصق بأديم صخرة بحرية ضخمة تغطيها أمواج البحر ، و هناك تقام شعائر "الحج" من طواف بالمرقد و صلاة جماعية و حث الحافر تجاه بئر مدنسة بالقاذورات موجودة في الخلاء يشبهونها بالبئر المقدسة "زمزم" . كل هذه الشعائر تقام تحت الرعاية الرسمية للسلطات المحلية!! و يعقد في ذلك اليوم سوق عشوائي صغير ، تنصب فيه خيام البدو من أهل المنطقة المعروفين بلقب السواحلية (اسم مرتبط بسكان عبدة المتاخمين للساحل الأطلسي ) . و هكذا يجتمع البدو الآتون من كل فج غير عميق من فجاج سهل عبدة ل «التعبد و تأدية المناسك !» حج المسكين هذا يثير الكثير من النقاش ، يذهب بالمناصرين له إلى حد اعتباره تجمعا دينيا و تاريخيا يوطد العلائق بين القبائل و يشكل "متنفسا روحيا" لبدو تلك المناطق . و بات جزءا تاريخيا منحوتا في ذاكرة المنطقة و بالتالي حسب آراء هؤلاء ، فإنه من الصعب و المستحيل عدم القيام بحجهم السنوي . أما الرافضون أو المناهضون لذلك فيربطون هذا بالجهل والكفر ، و أنه لا حج إلا إلى الكعبة و المشاعر ببلاد الجزيرة العربية و غيره كفر بواح و شرك بالله. و هو في النهاية إحدى آليات تثبيت الجهل و التخلف لترسيخ وضع سوسيو سياسي معين سنأتي على ذكر تفاصيله و تجلياته و إسقاطاته في هذا الروبورتاج . تاريخ غارق في الفساد !.. إضافة إلى هذا السلوك الديني الغريب المشجع رسميا ، و الذي لا شك أنه يدخل في باب زعزعة عقيدة مسلمي البدوزة ! توجد بالمنطقة علامات تاريخية حقيقية تدل على أصحابها الذين مروا ذات تاريخ من هناك ، مقبرة للاتساوت الحاضنة لرموس في كل اتجاه، حيث إن الدفن فيها لا ينضبط لمفهوم "القبلة" .. يروي أحد الباحثين في التاريخ المحلي أن مرجع ذلك يعود إلى الغرقى الذين كانت تلفظهم أمواج البحر أو تودي بهم الجوائح والأوبئة التي ضربت مغرب القرون الخمسة ما قبل العشرين ( أي القرن 15 و ما يليه) ، آثار الفينيقيين أو الرومان حاضرة بقوة في الصخور و المغارات و المحارات ، فيما يسميه أهل البدوزة بالوطيات (حفريات سنابك الخيل ). و تبقى أبرز معالم الكاب كانتان هو الفنار البحري الذي يهدي السفن و بحارتها إلى طريق اليابسة في بحر الظلمات كما كان الأطلسي يسمى سابقا ، فهل ما زال يقوم بنفس الدور الذي من أجله شيده الفرنسيس ؟ إمارة الرمال !.. بعد هذا التأصيل التاريخي للمنطقة ، يكون لزاما الإطلالة عليها من بوابة الحاضر، وللأسف الشديد، حاضرها موشوم بالكوارثية و هذا أدق مصطلح يمكن نحته لفهم راهنها و استيعاب ما يقع على أرض البدوزة من سلوكات بيئية وانتخابية، هناك أشخاص ارتبطت سلالتهم تاريخيا "بالإيالات" واعتقدوا ويعتقدون إلى حدود اليوم أن المنطقة محفظة و محصنة لهم لا لغيرهم ، و كل ما يتحرك فوقها و ما هو جامد أيضا من ثروات لا يحق لأحد الاستفادة منه أو الاستثمار فيه إلا هم، أو في أقل الأحوال المرور عبر بوابة مجمعهم المتنفذ بالوسائل و الآليات المعلومة التي تحدثت عنها القراءات الأكاديمية ، نستحضر هنا كتابات واتر بوري و بول باسكون عن البادية و الأعيان و أساليب التحكم و"السلطنة". هؤلاء الأشخاص يتحكمون في المجلس القروي ويسيطرون على المقاعد البرلمانية و يهيمنون على المرافئ الصغيرة ( المراسي التقليدية ) و يتحكمون في خريطة الرمال التي تسيرها مافيا محلية حضرية و قروية فيها مسؤولون و برلمانيون. أجمعوا كلهم على التواطؤ و نهب الرمال والتوصل بالإتاوات كأضعف الإيمان . و هذا "نضال" شخصي يحسب لهم، وهم الذين وصل نفوذهم إلى الوساطة في تخليص المجرمين و إفلاتهم من العقاب و مخربي البيئة و قتلة الناس على الطرق بلا رقيب أو حسيب ، في المحاكم ؟ من المعروف و المعلوم أن الشريط الساحلي الممتد من آسفي إلى حدود الوليدية مرورا بالبدوزة و قصبة أيير التاريخية ، لا يضم أي مقلع مرخص له ، و مع ذلك تنهب الرمال نهارا جهارا و الشاحنات تعربد في الطرقات بدون لوحات ترقيم و أمام أعين الدرك الملكي كل يوم و كل أسبوع و كل ليلة و كل صباح .. من يحمي هؤلاء ؟ من يتستر عليهم ؟ من يغتني معهم ؟ .. الأجوبة عند أجهزة السلطة و الاستعلامات و الاستخبارات و هذا لاشك فيه. التخريب البيئي ، القتل العشوائي.. ألا يستحق كل هذا فتح تحقيق مركزي مستقل للوقوف على ما يقع في هذه المنطقة ؟ المخيم الذي على البال الشاطئ الوحيد الذي تبقى لأهل آسفي و شبابه و أسره من أجل التخييم و نصب "القيطون" أو "الكيطون" ( كل ما يجمجم يقمقم و يكَمكَم في اللغة ) ، و التمتع بأمواج البحر ورماله الذهبية هو "الكاب كانتان"، يتم تفويت مرافقه بطرق ملتبسة ، و أراضيه يتم الاستيلاء عليها "براطو" أي بالمجان و بأساليب تدليسية! "لعبة الاستمرار" هي جوكيرهم في الاستغلال والحيازة والبيع خصوصا لما يتعلق الأمر بالأراضي السلالية ؟ تعتقد مجموعة الأشخاص المشار إليها أن الأرض أرضها والبحر بحرها، و "إمارة الرمال" حقها الطبيعي لا أحد يناكفها فيه . و عديد من رجال السلطة يأتون و يدخلون على هذا الواقع و لا يستطيعون فعل أي شيء سوى الارتكان إلى قانون "المنفعة العامة و المصلحة الخاصة «.. كُلْ و اشْرَبْ حتى لا يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في بدوزة الفساد» هاته هي اللغة المتداولة هنا؟!. في الشاطئ الجميل النقي و النظيف، لاشيء يزعج المرء و يربك صور هذا الجمال الطبيعي الأخاذ سوى العقلية التدبيرية لهذه المنطقة ، بما يميزها من زبونية وولاء وزرود... صبايا في عمر الزهور يبعن الخبز البلدي ، شيب و شباب يتوزع منذ الصباح الباكر على سكان الرمال المؤقتين عارضين بيضهم و زبدهم البلدي و هنديتهم النصرانية و كرموسهم المسلم !.. هذا العام تغير الكاب كثيرا ، نزح إليه العديد من المفرج عنهم و بائعات الهوى اللواتي انتهت مدة صلاحيتهم الجسدية، و كثر القرقوبي و السيلسيون و المشاحنات . المنتجع جميل ، لكن أهل الجماعة لا يملكون خيالا منتجا و لا برنامجا حقيقيا لتأهيل المنطقة، يبدو أن من مصلحتهم الإبقاء على شروط البداوة كما هي ، للتحكم بشكل كلي و دائم في الأرض و البشر و الحيوان. ولعل أبلغ ما نختم به هو ما أسر به الحاكم بأمره هنا لأحدهم حين قال : " ماكاينش اللي يحيدنا من هنا إلا الموت " . نهايته .. هل الانتقال الديمقراطي و الحكامة المحلية و دولة الحق والقانون وحقوق الإنسان والحداثة مفاهيم و مشاريع يمكن تنزيلها و بلورتها مع مع ناس البدوزة؟ ملحوظة: الشكر و الامتنان للأستاذ ابراهيم اكريدية الباحث في تاريخ آسفي و ما إليه الذي قدم لنا أثناء إنجاز هذا الروبورتاج مساعدات علمية قيمة . (آسفي)