«ذلك الطفل الذي كنته يوما ما، تتملى العالم من حولك ببراءة الحالمين.. تخطو.. تتعثر.. تلهو.. تزهو.. تشاغب.. تكبر. فيكبر معك العالم من حولك، وتكبر مودتك للحضن الأول.. لبلدتك الصغيرة التي وطأتها قدماك. هناك كنت تحصي أيام شغبك الجميل.. هي لحظات آسرة كانت منفلتة من ذاك الزمن السرمدي، وشمت خيالك ووجدانك لتنسج عبرها، ومن خلالها علاقات حميمية هنا والآن. فتلتقطك على حين غرة أسرار الكتابة وتجذبك مليا إليها في عز اليفاعة، لتتقوى آصرة العلاقة بينكما، ومن خلالها سال مداد كثير. رسمت بعدها مسارا مميزا في الكتابة، هو نسيج لا محالة لتجربة في الحياة كما استهوتك وكما عشقتها أن تكون...»هي إذن فسحة للصيف نستضيفك لها لنكتشف معك، ومعنا القراء، مسارات الطفولة وشغفها بالمكان وما تحتفظون به من صور الذاكرة ولقاؤكم الأول مع الكتابة. شهادة هي في النهاية من تجربتكم في الحياة.. عندما كنا صغارا نجري في أزقة الحي الممتد على البحر، كنا نعتقد أننا في «نهاية العالم». وكأن البحر يلفنا في بيت صغير اسمه: «تراب الصيني»..الحي الذي يتحول من مكان بالمفرد الى أمكنة بالجمع.. هو بصيغة الجمع لأنه خليط لا متناهي من انجراحات ذوات ظلت تحرس الأمل بعيدا في أفئدتها حتى فهمت في لحظة تاريخية من بداية القرن الماضي، أنها منسية تماما من خطابات الذين توارثوا على صناعة القرار السياسي والتدبير الجماعي..جلهم يدركون أن المكان يزخر بعطاء حرفييه وعماله وصناعه وحقوقييه ومناضليه وسياسييه ومنسييه..لكنهم يقرون، وبالمفرد هذه المرة، أن تاريخ الأفراد والناس البسطاء يترك منحوتا على الجدران..لذلك كنا نرقب رذاذ البحر المحمول على أمواجه وهو يطل علينا في مرات عديدة يشاركنا الغضب، لكنه في لحظة من اللحظات توقف أن يثور والتزم الصمت. بين البحر، ودروب الحي كانت النسوة والرجال يعبرون يوميا اتجاه معامل تصبير السمك..يومها كانت فاكهة «المشمش» لا تحتاج لركوب الشجر، وكان السمك بأنواعه كالرذاذ ليس كما اليوم،..وفي الحي تعلمنا «الحياة» بطريقتنا، أحببناها بصيغة محمود درويش «كلما استطعنا إليها سبيلا».. لذلك شعرت منذ البداية أن الزمن القاسي، والألم مرادفان للكينونة..ومن يومها قررت في قرارة نفسي أن لا أصالح إلا نفسي.. وبين الأزقة والصخور المطلة على البحر والأشبه باللعبة الحلزونية، تعلمنا «فن المتاهة» وكأنه كونديرا يفكر في نصه الروائي «البطء». علمنا البحر أن لا مكان للفراغ وأن الامتداد لعبة الريح. تلك التي حملت لنا خبر الذين عبروا الى دهاليز لم نعرف عنهم بعدها أي خبر.. هنا، للبحر حكايات كما الناس. لن يفهمها يوما تودوروف ولا هيدغر..في مغامراتنا الطفولية كنا نكتشف العالم وما حولنا، لكن هذه المرة ليس من أبواب البحر الخلفية..بل من خلال شاشة دار الشباب علال بن عبد الله، وبعدها «طليسا» أي سينما الأطلس..أيام «عكيرة»: كانت الفترة الصباحية ليوم الأحد مخصصة للدخول ب50 فرنكا..هو زمن السينما..كان سحر الشاشة يشي بالعالم الذي لا نراه. عالم مليء بالأحلام والتماهي بشخوص أشبه بالاكتمال، بين الأفلام وسحر الصورة اكتشفت لذة الإبداع، ومعنى أن تصنع حيوات وتبتكرها وتعيشها بالتماهي..تخلق لها كونا مصغرا ومسافات من السحر والولع..لذلك قررت أن أخلق عالمي الصغير وهذه المرة ليس من خلال الشاشة ولا من خلال «الواقع» الذي يرى الرائي بل من خلال الكتب، من خلال الروايات من ألف ليلة وليلة الى أم مكسيم غوركي الى روايات جورجي زيدان الى جبران خليل جبران.. هناك فقط في النافذة المطلة على الشارع والقريبة من الضوء المنبعث بقوة، مما كان يضفي هالة خاصة ليلا على عوالم الحكايات..ربما لهذا السبب كتبت نصا قصصيا يوما ما حول البحر ومحمد الركاب، الى اليوم لا أعرف السبب؟ هل ثمة علاقة ملتبسة بين صورة محمد الركاب والممثل الرائع محمد الحبشي والبحر والحكاية..لكن الأغرب أن من بين أولى نصوصي الشعرية قصيدة تخص السينمائي محمد الركاب..وكأنني وجدت تركيبة سحرية تخصني «الصورة القصيدة الكينونة» وهي التركيبة التي ستظل أفقي الخاص.. سحر الصورة ظل يحضر في الأمكنة، في المرئي. وزاد مصادفتي لنص سليم بركات من فهم هذه التركيبة غير المفهومة أحيانا والتي لا تحتاج إلا للتأويل..باستطاعة القصيدة أن تخط تلك الدهشة دون توابل ولا ضوابط ولا سنن، فقط القدرة أن تكون خالصا في رؤاك، مفردا حينها..يكذب من يقول العكس؟ ولا أقصد هنا نصوص الاستنساخ وقد ملئوا المشهد..بل تلك التي تظل ترافقنا وتكبر معنا ولا ننساها.. لهذا كنا معا، أنا والقصيدة نؤسس عزلتنا بعيدا عن تلصص التجارب العابرة، في حين كنا معا نتلصص على الكينونة. وربما لهذا السبب، أدركت مبكرا أن الشعر هو الجنس الإبداعي المكتمل والمفرد الذي يستطيع أن يعبر عن متاهات الفرد وتشظيه، عن انشراخ العالم وعن الأشياء في صمتها اللعين، وعن فهمنا لها وأحيانا عن اللافهم.. تجربة الكتابة تؤسس في النهاية لمسار من حيوات دفينة في جدران المكان، وفي وجوه منسييه..في وجه طفل يرى مجتمعا بجميع تناقضاته مما حوله لحقل سيوسيولوجي مفتوح للتمحيص. في ذاك الأفق الملتبس الذي خلنا في لحظة من لحظات مرحلة المد اليساري أننا سنشكله بالقوة. حتى عندما كنت أصاحب قصائد محمود درويش وإيقاعات مارسيل خليفة، نصوص أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، من قعبور الى مجموعة الطريق الى الميادين الى العاشقين الى ألوان. كان الطفل مشدوها لذاك العالم الذي كان قريبا، لكنه اليوم أمسى بعيدا للغاية..لقد انمحى تماما من الصورة. ولأن الكتابة جزء من هذا التحريض المجازي لبلورة هذا الأفق، شكلت القصيدة رهانا تحول مع الوقت لسؤال أنطولوجي حقيقي، أمكن معه للطفل الذي كنته، أن يخطط مسارات هذا التيه وجينالوجيا الألم المزدوج. جزء من هذه الكينونة التي تشبعت بقيم أصيلة، هي القيم التي أمست «سلعة فاسدة» وتذبح يوميا على الموائد وفي العلن. في النافذة ذاتها، المطلة على شارع محمد الخامس..كنت أبتدع خلسة سيرا لذاك التيه الذي وحدني بالمكان. كنا نستشعر معا سيرة الفقدان ونكتب جزءا مما لم تستطع الجدران والبحر أن يصرخ به علانية وعلى مرأى من الجميع. لذلك لا يستطيع بحر آسفي إلا أن يكون شاعر قصيدة النثر في مشروعها المؤجل، يسهب في كتابة انخراطه الواعي، في كينونته اليقظى والتي تتوحد بالمكان/ آسفي. لم يصبح حي تراب الصيني إلا جزءا مصغرا من مدينتي والتي تتلبس بنفس الإنجراحات. إنها المدينة التي أسست نفسها بنفسها عبر تاريخ منسي مجهول. وخلافا لما يقوله البعض، لم يستطع حتى عقبة بن نافع أن يدرك أن ثمة مدينة تقبع في مقدمة المحيط في حاضرة المحيط، تحرس سدى المكان بهيولته..لذلك أماط الطريق وعبر اتجاه الشمال، ليتكئ على زاوية قائمة تعيده من حيث أتى.. هنا زارتني نصوص سليم بركات ومحمود درويش ومحفوظ مصيص وأدونيس وأحمد المجاطي ومحمد السرغيني والخمار الكنوني مرفوقة بأطفال مارسيل كارني وجاك بريفير وبأورسن ويلز ومحمد الركاب وكونشالوفسكي...جميعهم تجمعوا في متخيل الطفل الذي انمحى تدريجيا، ويبدأ رحلة العزلة متأبطا سؤاله الخاص..لعله تجربة الكتابة الذي يتبلور شيئا فشيئا، لأنه من مشتل الحياة اللامتناهي..