توقف فارس، مرة أخرى، ليبتلع ريقه. وبدأ صوته ينكسر. أكيد انها علامات تعب السفر. وانطلاقا من هنا، توالت الخيبات وتسلسلت، يقول فارس. أصبحت طلبات رب العمل، يوما بعد يوم، في تزايد أكبر. يجب تقديم العلف للماشية، ومنحهم الماء ومصاحبتهم إلى الحقول، إلى الحد الذي أصبحت معه أيام العمل هاته أطول. كنت احتاج إلى شهر لكي أعي هزالة وضعي وأنا أتلقى راتبي الأول: مئتا ريال سعودي، مقابل ثلاثين يوما من العمل، قد تكفيني فقط لأداء ثمن الحلوى التي اقتنيها من دكان في الزاوية هناك، والذي لسخرية القدر في ملكية مشغلي! بدون ادنى حركة، ومن خلال عملية حسابية ذهنية سريعة، فهمت أنه يجب علي أن أشتغل على الأقل سنة كي أتمكن من أن أدخر المال الكافي للعودة إلى صنعاء. لم أكن أتوفر على ما يمكنني من أن أجري اتصالا هاتفيا بكم. هذا بالإضافة الى أنني كنت، جد فخور بتقبلي لفشلي. فالمرة الأولى التي ربطت فيها الاتصال بكم، كانت فقط كي أجعلكم تعتقدون أن كل شئ يسير على أحسن ما يرام. وفي المرة الثانية، بعدما مرت سنتان، فقط كانت لكوني كنت جد قلق... خفض رأسه الى الاسفل، فملأ صدره بالهواء، ثم تنهد الصعداء. ما أن انتهت المكالمة، لم أكن قادرا على مقاومة نفسي من التفكير في دموع الوالدة، على الجانب الآخر من الخط. لم أعد أتمكن من ان أخلد إلى النوم ليلا.عددت ما أتوفر عليه من نقود. لم أكن أتوفر سوى على ما يجعلني أقتني بطاقة سفر إلى صنعاء. وفي أحد صباحات الاسبوع الماضي ذهبت لزيارة مشغلي لكي أودعه. لقد اتخذت القرار وحان الوقت لأعود الى البيت. والآن ما الذي تود عمله؟ يسأله محمد. حسنا!، سأفعل كما الآخرين.. سأبيع العلك في الشارع، يجيب فارس بنبرة مستسلمة. كم تغير فارس! فهو الذي كان في ما قبل أكثر طموحا، تراه اليوم مستعدا للاصطفاف الى جانب المنهزمين.. فمثلما رسم ملون، رأيت من جديد نظره الوقح وهو يواجه والدي، وأتذكر شقاوته التي كانت تقلق الوالد لكنها كانت مضحكة أيضا. لو كان فارس رفقتنا ذلك اليوم في ال«بيزيريا»، لكان هو أول من سيصنع طائرات من المناديل الورقية للمطعم، كي يرسلها إلى الطاولة المجاورة. إن ما منحني القوة شهر ابريل كي اهرب وجهة المحكمة، كان استحضاري لحماس فارس.فهروبه من البيت منحني الشجاعة كي أطير أنا الأخرى بجناحين في ملكيتي. احس كما لو اني أدين له بشئ ما. فارس مهزوم، لا. إنه ليس من هذه الطينة. لا أتصوره أبدا يستسلم. أبدا. إن هذا يدمي القلب. يجب أن أعثر يوما على طريقة ما لكي أساعده بدوري أنا الأخرى. في الحقيقة، لا أعرف كيف، إلا أنني سأهتدي نهاية الامر إلى العثور على وسيلة لفعل ذلك.