«ذلك الطفل الذي كنته يوما ما، تتملى العالم من حولك ببراءة الحالمين.. تخطو.. تتعثر.. تلهو.. تزهو.. تشاغب.. تكبر. فيكبر معك العالم من حولك، وتكبر مودتك للحضن الأول.. لبلدتك الصغيرة التي وطأتها قدماك. هناك كنت تحصي أيام شغبك الجميل.. هي لحظات آسرة كانت منفلتة من ذاك الزمن السرمدي، وشمت خيالك ووجدانك لتنسج عبرها، ومن خلالها علاقات حميمية هنا والآن. فتلتقطك على حين غرة أسرار الكتابة وتجذبك مليا إليها في عز اليفاعة، لتتقوى آصرة العلاقة بينكما، ومن خلالها سال مداد كثير. رسمت بعدها مسارا مميزا في الكتابة، هو نسيج لا محالة لتجربة في الحياة كما استهوتك وكما عشقتها أن تكون...»هي إذن فسحة للصيف نستضيفك لها لنكتشف معك، ومعنا القراء، مسارات الطفولة وشغفها بالمكان وما تحتفظون به من صور الذاكرة ولقاؤكم الأول مع الكتابة. شهادة هي في النهاية من تجربتكم في الحياة.. إن ذاكرة الإنسان السليمة خزان طبيعي للذكريات والصور، التي «تؤرخ» لمراحل عمرية متعددة، يقطعها خلال حياته. من تلك المراحل العمرية مرحلة الطفولة، التي هي في اعتقادي أبهى وأجمل مرحلة عمرية في حياة الإنسان، حيث يعيش هذا الطفل صافي الذهن، رغم أن المحيط الاجتماعي والمحيط الطبيعي كذلك، اللذين عاش في كنفهما، قد يتسمان بنوع من الصعوبة. . إنها مرحلة البراءة واكتشاف العالم والبحث عن الذات. وبالنسبة لي، تحتفظ ذاكرتي بعدد كبير من التفاصيل تتعلق بهذه المرحلة العمرية. قبل أن أذكر بعضها هنا، مع نوع من الانتقاء، أشير إلى أن أقدم صورة تتعلق بطفولتي تعود إلى وضع جدي من أمي رحمه الله، ذي اللحية البيضاء، يده في يدي أمام الدكان الوحيد الذي كان موجودا بقريتنا الموجودة بالجرف إقليمالرشيدية. وقد كان من أعيان تلك القرية، كما كان فقيها وفلاحا. وقد أخبرتني أمي، أطال الله في عمرها، أنه هو الذي أدخلني إلى الجامع (المسيد) من أجل حفظ القرآن الكريم. والجرف، في تلك المرحلة، كان متكونا من مجموعة من القصور المتفرقة، لها مركز إداري واحد. والقصر في منطقتنا، في تلك الحقبة، كان مبنيا من التراب المدكوك والطين، يراعى في تشييده الجانب الأمني. لذلك كان له مدخل واحد كبير محروس ومغلق ليلا، يحرسه الموقت. فرض نظام السقي، سقي الأرض الصالحة للفلاحة في الواحة، وانعدام توفر الساعة عند جميع سكان القرية تقريبا مهنة هذا الأخير. حفظت في جامع قصرنا هذا، قصر المنقارة، عددا من السور القرآنية قبل أن تجرفني المدرسة. وإذا كان الفضل في ترددي على الجامع يعود إلى جدي، فإن الفضل في دخولي إلى المدرسة يعود إلى أبي، وهو أيضا فلاح، أطال الله في عمره. على يد فقيه، مازلت أحتفظ بتفاصيل هيئته ومظهره في ذاكرتي رحمه الله، بدأت تعلم الحروف كتابة ونطقا. تعمق هذا التعلم في المدرسة حيث كان المعلم يدرس مستويين في قسم واحد، وهو القسم الوحيد في قصرنا يومئذ، هما التحضيري والابتدائي الأول. كان هذا المعلم فنانا في رسوماته التي يرسمها على السبورة، باعتبار تلك الرسوم وسيلة للإيضاح. وبدون شك، فقد كان يبذل قصارى جهده من أجل تعليمنا. كنا حينئذ نستعمل «الخشيبات» في مادة الحساب. وكانت العقوبة هي كتابة الدرس عشرات المرات. أدرك اليوم الدور البيداغوجي لهذه العقوبة. تعزز المقرر الدراسي بإضافة اللغة الفرنسية في الابتدائي الثاني. وكان معلم اللغة الفرنسية معروفا بجديته وإخلاصه وتفانيه في عمله. وهو نفس المعلم الذي درست على يديه في المتوسط الثاني حيث نلت الشهادة الابتدائية، التي كنا نجتاز الامتحان للحصول عليها بمدينة أرفود، في ثانويتها الوحيدة في ذلك الوقت. وكان يصطحبنا، نحن التلاميذ، آباؤنا ومرافقونا لاجتيازه مستعملين الدراجات الهوائية وسيلة للتنقل. وقد كانوا يشجعوننا يوم الامتحان ويحفزوننا على الاجتهاد خلاله بشراء «كوكاكولا» أو «فانتا»، التي كنا نشربها أثناء الاستراحة بعد اجتياز المادة الأولى. وكان عدد منا يشربها لأول مرة ذلك اليوم. ما زلت أذكر أسماء جميع المعلمين الذين علموني في الابتدائي. رحم الله من مات منهم وأطال الله في عمر من مازال منهم حيا. لم أنس ذلك اليوم الجميل الذي اشترى فيه والدي مذياعا من مدينة أرفود. انتشيت بسماع الأصوات المنبعثة منه، وكذلك الأغاني ومنها على الخصوص «عندي بدوية»، و»في قلبي جرح قديم»، «وطنجة يا العالية»وأغاني حميد الزاهر. في سطح منزلنا المفتوح على السماء الصافية، المزين بضوء القمر في فصل الصيف والنخيل الموجود خلف السور الخارجي للقصر، يكون لسماع الأغاني الجميلة شعور خاص. وكنت حينها أعتقد أن «المربع الأحمر»، الخاص بإشهار لإحدى شركات الزيت، الذي «يطوف» عبر أرجاء الوطن، حقيقة وليس مجرد إشهار. لذلك كنت أعتقد أن هذا «المربع الأحمر» شخص حقيقي يوزع جوائزه على الناس. ومازلت أذكر أيضا الإعلانات الإذاعية الخاصة ببعض العروض المسرحية ومنها مسرحية «القوق فالصندوق»، وكذلك برنامجا إذاعيا لصحافي يسمى سعيد الزياني (تحول فيما بعد إلى داعية) وكان صوته جميلا، و»قالت الصحافة» لمصطفى العلوي، وبرنامجا خاصا بناشئة الأدب. كانت الإعدادية التي انتقلت إليها من أجل متابعة الدراسة تبعد عن قريتنا بنحو عشرين كيلومترا. كانت توجد، ومازالت، بمدينة أرفود:ثانوية النخيل كما كانت تسمى حينئذ. كنت أحيانا أبكي بكاء حارا لما أصل إليها عشية يوم الأحد، بعد قضاء نهاية الأسبوع في منزلنا مع أسرتي، في الشهور الأولى من السنة الدراسية الأولى بهذه الثانوية. وكانت هذه الأخيرة تستقبل التلاميذ القادمين من الجرف والريصاني وأوفوس والنيف والطاوس، فضلا عن تلاميذ مدينة أرفود. لقد كانت الثانوية الإعدادية الوحيدة بالمنطقة كلها حينئذ. نتج عن هذا تعدد صداقاتي، و بدأت أعرف أن العالم أكبر مما كنت أظن. فقد كنت أعتقد أن العالم كله مكون فقط من بلدتي وبعدها أرفود ثم «الحج». لم أعرف في ذلك الوقت اسم السعودية بل فقط «الحج». عرفت هذا الأخير لما ذهبت جدتي رحمها الله، و كانت ذات شخصية قوية، إلى الديار المقدسة بعد وفاة جدي. في هذه الثانوية الإعدادية بدأت ميولي الأدبية تظهر شيئا فشيئا. وأذكر أن أستاذا للغة العربية، وقد كان أستاذا جيدا، كتب ملاحظة في ورقة للإنشاء العبارة التالية:»إذا أردت أن تتفلسف ففي مواضيعك الخاصة». ولم أعرف وقتها ما المقصود بهذا الفعل «تتفلسف»، تماما مثلما استعصى علي تحديد موضوع الرياضيات، وقد كان مستواي ضعيفا فيها. ذلك أنني كنت أعرف موضوع العلوم الطبيعية وموضوع الكيمياء والفيزياء، وإن كان مستواي ضعيفا في هذه المواد، لكنني كنت أجهل تماما موضوع الرياضيات. هذه الميول الأدبية هي التي جعلتني أختار شعبة الآداب العصرية. لمتابعة دراستي في هذه الشعبة، كان علي، وزملائي أيضا، أن أذهب إلى مدينة كلميمة. وبحكم بعد المسافة، فقد كنت داخليا. اشتريت كتاب «تاريخ الأدب العربي»، وهو مجلد ضخم، لحنا الفاخوري، الذي صار مرافقي الدائم قبل الجامعة. كان أبو القاسم الشابي، شاعر الحب والثورة، شاعري المفضل. لذلك اشتريت ديوانه الشعري واستمتعت بقراءة قصائده الشعرية الرومانسية الحالمة والثائرة، وتماهيت معه. بلغ افتتاني بهذا الشاعر حدا جعلني أكتب اسمه باللون الأحمر البارز على كتاب حنا الفاخوري السابق الذكر. نظمت قصائد شعرية في ثانوية غريس بكلميمة (ثانوية محمد الخامس اليوم)، من بينها قصيدة شعرية، على وزن المتقارب، أهجو في بعض أبياتها الهواري بومدين الرئيس الجزائري الأسبق. كان ذلك بعد المسيرة الخضراء. كما كتبت قصة قصيرة في دفتر. أظن أن عدد صفحاتها قد يكون ثماني صفحات أو نحو ذلك. في السنة الأخيرة، سنة الباكالوريا، شاركت في تقديم سكتش على خشبة أمام داخلية الثانوية. وهنا أذكر أن أول عرض مسرحي شاهدته مباشرة كان في دار الشباب بمدينة كلميمة لما كنت تلميذا. كان بنبراهيم، الممثل المعروف، هو «نجم» المسرحية. تلك كانت هي الخطوات الأولى في درب الكتابة. أظن أن الحياة تكتسب معنى خاصا بفضل الكتابة. هذا المعنى لا يدركه حق الإدراك، ولا يتذوق حلاوته إلا الذي اختارته الكتابة، أقول اختارته وليس اختارها، فأخلص لها. إن الكتابة تجعلني أعيش في عالم آخر، عالم يتعايش فيه أرسطو مع أبي العلاء المعري، وشكسبير، وتوفيق الحكيم، وبريشت، وموليير، وسعد الله ونوس، وبرانديللو، ومحمد مسكين، وعز الدين المدني، ومحمد الكغاط، ، والزبير بن بوشتى، ومحمود درويش، ومحمد السرغيني، ومحمد مفتاح، وباتريس بافيس، والسعيدين بنكراد ويقطين وسواهم. . . وهم لا يجتمعون إلا في هذا العالم. وفيه لا فضل لأحد على آخر إلا بالإبداع والعلم.