تتحدث كل طيور العالم المغردة لغة الشذو والموسيقى النابعة من سحر الطبيعة، وتتحدث الشعوب عن خصوصيات تراثها وتقاليدها، وتعاملها مع باقي الكائنات. ويتحدث هواة تربية الطيور المغاربة لغة العشق والانصهار في عالم خاص لا يمكن الحكم عليه بمجرد النظرة الأولى. يعشقون أن ينادى عليهم بلفظة «الماليع»، وهي كلمة السر بينهم لقياس مدى تعلق كل فرد بهوايته، وبطائره، سواء كان حسونا أم كناري مالينوا أو فلاوطا أو غيرها... تتعدد أسماء الطيور وأشكالها وخصوصياتها، وتبقى الهواية أو «الولاعة» قاسما مشتركا بين جميع الهواة، لتصل حد الجنون أحيانا. ويعيش الهواة في ارتباطهم بهاته الحيوانات الفريدة قصصا مثيرة، فبعضهم قد يصل به التعلق بطائر معين حد مبادلته بمعطف جلدي، أو حتى بسيارته، كما يروج في أوساط «الماليع»، لأن العشق أعمى، ولم يعد هناك هدف لدى العاشق سوى الوصول إلى معشوقه مهما كان الثمن باهظا في نظر الآخرين، فإنه بالمقابل لا يساوي شيئا لدى العاشق، وهذا دخول قوي في مقام العشق لا يعلمه إلا المريدون. «الاتحاد الاشتراكي» اقتحمت على «الماليع» عالمهم الخاص، وتقاسمت معهم هذا العشق والجنون، لتهديه إلى قرائها كتغريدات منعشة... بدأت قصتي مع مملكة الطيور حين كان عمري 7 سنوات، كنت أنتظر العطلة الصيفية كالعادة، لقضاء أوقات ممتعة بعيدا عن الدراسة، بمجرد إعلانها يرسلني والداي إلى البادية. بدأت أتعرف على أصدقاء من العالم القروي، كنا نمارس مجموعة من الألعاب ونقوم بأنشطة كثيرة كباقي الأطفال، لكن أفضل شيء كنت أحبه يتمثل في اكتشاف الحياة الطبيعية والبرية، كنا نمضي وقتا طويلا في صيد الطيور . حدث مرة أن جاءت زوجة عمي من البادية قصد الولادة عندنا في المدينة، فلما تم ذلك، أحضروا لها صغار الحمام كما جرت العادة، حيث يقال بأن صغار الحمام تجعل المرأة وافرة الحليب. هنا كانت نقطة الانعطاف في طبيعة علاقتي مع الطيور، وبدأت أحس بهمس رياح مملكة الطيور الطيبة تدغدغ كياني، أثار انتباهي أحد صغار الحمام الذي كان لونه أبيض مزركشا، طلبت من عمي أن يعطيني هذا الطائر الجميل فمكان منه إلا أن لبى طلبي خاصة وأنه ضيف عندنا، اصطدم الأمر بعدم موافقة أمي بدعوى أن صغير الحمام لا يعرف الأكل لوحده، وأنا لا أعرف إطعامه، لكن أمام إصراري ومساندة عمي لي خضعت أخيرا لرغبتي خاصة و أن أخ زوجة عمي تكلف بتعليمي كيفية إطعامه. كبر صغير الحمام معنا في المنزل وسط العائلة، فصار ذكرا قويا، يذهب معنا أينما حللنا وارتحلنا. حتى أنه قضى معنا أياما طويلة بمنزل بمخيم «سيدي عابد» بنواحي الجديدة. فتراه ينهض باكرا يحلق فوق الشاطئ ثم يعود للمنزل ليجدنا نتناول وجبة الفطور، فيختار رأس أحد الجالسين ليجثم فوقه و كأنه فرد من العائلة، تعود على ذلك، وتعودنا نحن أيضا على ذلك، أعتقد أنه كان خيطا رفيعا بين مملكة البشر بكل ضجيجها وبين مملكة الطيور بكل جمالها وعشقها وسحرها. أذكر أنه حدث أن ذهبنا إلى البادية في منطقة سيدي إسماعيل لحضور حفل زفاف أحد الأقارب، و مكثنا في البادية أسبوعا كاملا تاركين الحمامة المزركشة وحدها، تركنا لها الأكل و الشرب الذي يكفيها، خلال هذا الأسبوع جاء أحد أصدقاء خالي وهو محام بالجديدة ليستغل المنزل، وكعادتها لما فُتح الباب دخلت الحمامة لتجد صديقنا ينتظرها ليس للترحيب طبعا، لكن ليجعلها وجبة غداء ظنا منه بأن السماء جادت عليه بها فذبحها، كانت الصدمة كبيرة بالنسبة لي ولكل أفراد العائلة حين سمعنا بالخبر، أحسست بالانقباض في صدري، كأنها تحكي لي قصة الغدر الذي تعرضت له من البشر الذي كانت تعتبره حقا من أقوى الأفياء، ومن أشد مناصري مملكة الطيور، تعهدت أن أربي غيرها، فأصبحت كل عطلة أذهب فيها إلى البادية، أربي صغار الحمام في بيت مهجور كان في ملك جدي محمد القضيوي « بن زينة» رحمه الله، فكنت أقضي كل عطلتي معتكفا في ذلك البيت الذي صار بالنسبة لي قطعة رائعة من مملكة العشق، صرت منصهرا في عالم الحمام ألعب مع أطفال أقراني، وفي مثل سني، لم يكن يجبرني على الذهاب لبيت جدي سوى الأكل والشراب. لكن أصعب اللحظات التي لا تزال راسخة في ذهني هي تلك التي أمر بها عند وداعي للبادية في نهاية العطلة، تاركا الحمام الذي ربيته هناك، وأنا أعي جيدا أني لن أجده في العام المقبل، وأنا متجه إلى المدينة كنت أتمنى في نفسي لو أني كنت كبير السن، وأتوفر على عمل بالبادية لكي أستطيع تربية الحمام، وفعلا تحققت أمنيتي حين تخرجت من مركز المعلمين لأُعين بالبادية ب«دوار أولاد السي عبد الله بن مسعود» أي البادية التي كنت أحكي عنها، وكنت أتمنى أن أشتغل بها، وأول شيء فعلته هو أنني جلبت الحمام وقمت بتربيته، كم كانت سعادتي غامرة وأنا أجد أغلى أمنياتي تتحقق بالولوج إلى مملكة الطيور دون أن تفرقني عنها الدراسة، أو ضوضاء المدينة، كنت محظوظا جدا.. ذات مرة زارني أحد الأساتذة، والذي كان يشتغل معي، أعجب بالحمام كثيرا، أخبرني بأنه ينتمي إلى مملكة الطيور، لكن في شق آخر له إثارة وجمال خاص، كان يربي طائر الحسون، كان يجلب عشا للحسون، ويقوم بتربية صغاره ويدربها عن طريق شريط التلقين الذي يتضمن مقاطع من تغاريد منتظمة وساحرة، تحفزت كثيرا لدخول هاته التجربة، فعلمني كيف أطعمها، وكيف ألقنها اللغة بغض النظر عن نوع التغاريد المتضمنة لها، لكني حاولت أن أخوض تجارب أخرى، قمت بتربية صغار «القاماتشو»، «الحرمل أو طوينة»، وكذا صغار «السمريس»، «البسبوس» على أن أهجنها في العام المقبل، نجحت في خطتي، وأنتجت هجينا من ذكر «القاماتشو» مع أنثى الكناري، وكذا هجينا آخر من ذكر «السمريس» مع أنثى الكناري، قمت بتلقينهما مقاطع تغريدية، ونجحت إلى حد ما في ذلك، كما أني قمت بتزويج ذكر هجين «السمريس» مع أنثى الكناري، إستطعت أن أبرهن للجديدين على أن هجين السمريس ليس عقيما. بدخولي إلى عشق مملكة الطيور كانت أمنياتي في هذا العالم الخاص تتحقق تباعا، وكان السحر يتغلغل في دواخلي حتى صرت أفتخر بعضويتي في هذا العالم المتميز. في السنين الأخيرة أعجبت بهجين الحسون لقدرته المتميزة على التعلم، فغيرت الوجهة نحوه مستعملا في تلقينه لغة هجينة بين «كوبية سبتة» و«كوبية مالكا» وأتمنى أن يدوم سحر مملكة الطيور داخلي وأن تتحقق كل أمنياتي في هذه المملكة الساحرة.