إسمها نجود، فتاة بسيطة صغيرة، تنحدر من محافظة «حجة» شمال غرب اليمن حيث تعيش مع والديها رفقة 16 من الأخوة والأخوات. تعتقد نجود أنها تبلغ من العمر عشر سنوات، ففي بلدها اليمن لا يتوفر السواد الأعظم من أبناء البوادي على وثائق ثبوتية، وغالبيتهم لا أثر لهم في سجلات الولادة. مثل أي فتاة في العاشرة من العمر، تعشق نجود اللعب بين أزقة قريتها، وتحب لعبة القط والفأر مع صديقاتها وأخواتها، والألوان المفضلة لديها هما الأحمر والأصفر، وهي تفضل الشوكولاتة وجوز الهند، وتحب الكلاب والقطط، كما أنها لم تعرف البحر مطلقاً وتحلم بأن تعانق يوما أمواجه. نجود علي رفقة الصحفية الفرنسية ديلفين مينوي، تقربنا من تفاصيل تجربتها الفريدة، التي صاغتها في كتاب عنونته ب«أنا نجود، عممري 10 سنوات، مطلقة» الآن، يواصل القاضي محمد الغازي حديثه إلى زملائه، علىنا التحرك بسرعة. وأقترح أن نضع كلا من والد وزوج نجود رهن الاعتقال الاحتياطي. سيكونان في وضع أحسن داخل السجن منه خارجه إذا ما أردنا أن نحمي نجود. السجن! إنها عقوبة خطيرة جدا. لاأعتقد أن والدي سيغفر لي ذلك؟ لقد تملكني، بشكل مفاجئ، إحساس بالخجل والذنب. وزيادة على كل هذا، إنني سأحس بكبير إحراج، وهم يطلبون مني أن أصاحب العسكري لأساعده على تحديد عنوان إقامتهما ليلقي القبض عليهما. إنني لم أعاود رؤية أفراد أسرتي منذ نهاية الأسبوع، وسيعتقدون، بكل تأكيد، أنني هربت دون رجعة مثلما فعل أخي فارس. لا أود أن أتخيل الوضع الذي كانت عليه والدتي حينما بدأ إخوتي الصغار وأخواتي الصغيرات يطالبون بالخبز خلال وجبة للفطور! بالإضافة إلى هذا، أتذكر أنه أياما قبل أن أهرب، ألم المرض بوالدي، وبدأ «يبصق» دما. هل بإمكانه أن يقاوم الاحتجاز؟ ماذا لو مات، سأحمل نفسي المسؤولية طول الحياة.. لم يكن أمامي خيار. عندما يعاني الطيبون على الأشرار أن ينالوا عقابهم، كما أوضح لي ذلك عبدو. ركبت إذن السيارة رفقة العسكري. غير أنه عندما وصلنا أمام باب البيت وجدناه مقفلا بشكل جيد. لقد هدأ بالي بشكل يدعو للاستغراب. بعد ساعات من ذلك عاد العسكري إلى البيت، ولم أكن في حاجة لكي أصحبه. في ذات المساء تقرر وضعي في مكان آمن. ففي اليمن لا توجد دور لإيواء الفتيات مثلي. كما أنه لا يمكنني أن أظل طوال الوقت رفقة القاضي عبد الواحد، الذي كان أكثر من طيب بالنسبة لي. من هو الخال المفضل لديك؟ بعد مهلة تفكير لم أتمكن من التفكير إلا في شويعي، شقيق والدتي، عسكري سابق ضمن الجيش اليمني، فارع القامة وممتلئ الجسم. إنه الآن جندي متقاعد ويمتلك بعضا من السلطة على أفراد أسرتي. إنه يقطن رفقة زوجته وأطفاله السبعة ب«بيت بوس» بحي يبعد عن الذي تقطنه أسرتي. في حقيقة الأمر، لم يكن معترضا على زواجي... غير أنه هو على الاقل لا يضرب بناته. خالي شويعي لم يكن كثير الكلام، وهذا يوافقني جيدا. يتجنب إذن، طرح كثير أسئلة علي، ويتركني ألعب مع ابنائه. في المساء، قبل ان اتوجه الى سريري لأخلد للنوم، حمدت الله على عدم توبيخ شويعي لي لما أعلنته من جرأة، كما أنني تفاديت الخوض في الحديث عن هروبي. أراه وكأنه يحس بدواخله أنه منزعج من هذه القصة. بدت الأيام الثلاثة المتتالية طويلة ومتشابهة. أقضي معظم وقتي بالمحكمة، أملا في حدوث معجزة، والحصول على حل غير منتظر. كان الأفق يبدو لي ، للأسف، ضبابيا. لقد وعدني القضاة بأنهم سيبذلون كل ما في وسعهم لأجل أن يمنحوني الطلاق، غير أن ذلك سيتطلب منهم بعضا من الوقت. غريب، بقدر ما ينتابني شعور من عدم الارتياح من المجيء يوميا إلى هذا البهو الأسود الكبير ، انتهى بي الأمر بالتعود على هذه الزحمة التي أبهرتني كثيرا في بداية الأمر. كما أنني أتمكن، ولو من بعيد، من التعرف على باعة الشاي وعصير الفواكه. أما ذاك الطفل صاحب الميزان فتجده دائما منهمكا في «وزن» الزوار الذين لديهم ما يكفي من الوقت لذلك، ومع ذلك حدث وأن ابتسمت في وجهه تشجيعا له. غير أنه كلما عدت إلى المحكمة إلا وانقبض قلبي. كم من مرة يجب علي أن انتقل الى غاية هنا كي أتحول إلى فتاة صغيرة مثل الأخريات؟ لقد نبهني عبدو إلى أن وضعي استثنائي، غير انه كيف سيتعامل القضاة مع حالة استثنائية مثل هاته؟ لا فكرة لدي.. الجواب، أعتقد أنني سأعثر عليه أخيرا بجانب شدى، هذه المحامية الجميلة ذات النظارات الواقية من أشعة الشمس. عندما اقتربت الى جانبي، هذا الصباح، تمكنت من أن أرى في عينها كم الاحساس الذي كانت تنظر به إلي قبل أن تقول مستغربة «ياإلاهي!». حينها تفحصت ساعتها، وفتحت مفكرتها، وبدأت في تغيير مواعيدها التي كانت كثيرة. وبعدها بدأت في الاتصال بالواحد بعد الآخر، أقاربها، أصدقائها، زملائها.. «من الضروري أن اهتم بحالة مهمة، بالغة الأهمية»، كما سمعتها تردد اكثر من مرة. يبدو أنها سيدة تتوفر على خزان من الصبر لا ينضب ! كان القاضي عبد الواحد محقا. إنها محامية مثيرة. أكيد أنها تتمتع بسلطة كبيرة. هاتفها النقال لا ينقطع عن الرنين، وكل من صادفتهم في طريقها كانوا يوجهون لها التحية باحترام. نجود إنك بمثابة ابنتي! لن اتخلى عنك. همست في أذني. بدأت أصدقها. فهذه السيدة ليس لها من سبب يجعلها تكذب. أحس بالراحة وأنا رفقة شدى. إلى جانبها أحس بالأمن والطمأنينة. تعرف جيدا كيف تعثر على كلمات في محلها. صوتها الدافئ يواسيني. تمنحني من جديد بعضا من الثقة في الحياة. واذا ما انهار العالم أعلم جيدا انها ستساندني. رفقتها أحسست ولأول مرة بعطف الأمومة الذي لم تعرف والدتي أو لم تستطع جعلي أحس به، حيث كانت دائما منشغلة بكل مشاكل الأسرة، وبالتالي لم تكن قادرة على منحي إياه. سؤال ظل يتبادر الى ذهني... شدى؟ خجولة، أتوجه إليها بصوت خافت. نعم نجود؟ هل يمكنني أن أطلب منك شيئا؟ بكل تأكيد! هل يمكن أن أتلقى منك وعدا بأنني لن أعود الى بيت زوجي؟ إن شاء الله نجود .. سأعمل قصارى جهدي لأمنعه من أن يمسك بمكروه. كل شيء سيسير على أحسن مايرام. كل شيء سيسير على أحسن مايرام. لكن.. لكن ماذا؟ عليك أن تكوني قوية، لأن هذا سيأخذ منا بعض الوقت... كم من الوقت ؟ لا تفكري في هذا الأمر الآن. قولي لنفسك أن الأكثر صعوبة قد فات. إن الأكثر صعوبة، كان هو امتلاكك القوة لأجل الهروب، وقد حققت هذا الانجاز! أما الآن فتنفسي الصعداء.. ابتسمت شدى وهي تداعب رأسي. إنها إمراة ممشوقة القد. قامة طويلة. أثارتني بشكل لافت. وهل يمكنني بدوري، أنا الأخرى، أن أطرح عليك سؤالا؟ تواصل شدى حديثها. نعم. من أين لك كل هذه الشجاعة للهروب إلى المحكمة؟ الشجاعة للهرب؟ لم أعد قادرة على تحمل سماجته.. لم يعد بمقدوري ذلك.