بدرب الفران كان الطفل مولاي الطاهر الأصبهاني يمارس شغبه الطفولي مع أقرانه، يتنقل من لُعبة الى أخرى ، من «البي إلى الطرومبية إلى حابة».. كان من بين أصدقاء طفولته عبد العزيز الطاهري الذي ينتمي الى نفس الحي.. بعد العياء من اللعب ينطلق «جيش» الأطفال الى اكتشاف الأماكن المؤثثة لعاصمة النخيل.. من بين الاماكن التي ترددوا عليها كثيرا دار الشباب بباب أكناو.. يقول مولاي الطاهر، كانت هذه الدار تبدو لنا كبناية مليئة بالألغاز، وكنا نأمل أن نلجها ونعرف ما يجري بداخلها. كنا نقترب منها بين الفينة والأخرى، وكلما ظهر لنا مسؤول نطلق سيقاننا للريح. كالعادة، توجهنا نحوها في أحد الايام فوجدنا مجموعة من الأشخاص يقفون بالقرب من بوابتها.. سألنا أحدهم: هل تريدون الدخول؟ قلنا له بشكل تلقائي :نعم . فطلب منا الدخول.. في هذه اللحظة فسروا لنا أن أطفالا في أعمارنا يمارسون بهذا الفضاء المسرح والرسم ولعبة «كرة الطاولة» مع القيام برحلات وغيرها. واقترح علينا أحدهم اختيار ما نود فعله ..استهواني المسرح، ولم يكن عمري يتجاوز 14 سنة، أذكر أن قسم المسرح كان مسؤولا عنه الفنان التشكيلي عبد اللطيف الجواي، الذي يعد معلمة حقيقية. فرغم عصاميته، له بيداغوجية خاصة لتلقين أدبيات المسرح. لقد كان مهووسا بهذا اللون الفني إلى جانب السينما، كان يأتينا بقصة من إبداع خياله يرويها لنا ، وفي النهاية يطلب منا تجسيد شخوصها ارتجالا دون أن يكون هناك نص مكتوب أو رواية موثقة.. كنا نحن الاطفال المتحلقين حوله نجتهد لإبلاغ فكرته، و كلما أعجبه حوار يطلب من صاحبه حفظه وترديده. بهذه الطريقة تعلمنا تقمص الشخوص.. كل ما يفعله أنه يساعدك على كيفية إبداء الإحساس، بهذه الطريقة حولنا إلى مؤلفين شفاهيين، وعند انتهائنا من الارتجال، وتكراره، يقوم في الأخير بتنقيح القصة والحوار، قبل عرضها أمام رواد دار الشباب.. كان الرجل يفهم في مختلف تقنيات المسرح، فهو من يضع الديكور و الماكياج، وكل ما يحتاج إليه عمل مسرحي.. من الأعمال التي أبدعها معنا، كما أذكر، «فوال بغداد»، وتصور أن اطفالا «يؤلفون» رواية حول «فوال» في العراق ، رغم أنهم لايدركون حتى جغرافية بلادهم! وايضا «الدكتور ويل دجاجة»، وهو عبارة عن سكيتش يحكي عن طبيب يشبه اينشطاين ، ثم «الميمون».. كان من بين الممثلين المتميزين شخص اسمه «تاكموت» من أصول أمازيغية وله شخصية غريبة لم أر مثلها طيلة مسيرتي المسرحية. هذا الشخص، منذ ذلك الحين، انقطعت عني أخباره إلى اليوم. وكان هناك شخص آخر اسمه العربي منار، حين انتقلت الى الدارالبيضاء صادفته مرارا في شوارعها ، وقد توفي رحمة الله عليه قبل ثلاث سنوات، ومن بين الذين كانوا يشاركوننا في تشخيص هذه الأعمال محمد الدرهم. الأعمال التي أنجزناها بمعية الفنان عبد اللطيف الجواي لقيت صدى طيبا عند المتلقين، ولم نعد نقتصر على عرضها بدار الشباب، ولكن خرجنا بها الى عدة فضاءات أخرى بعاصمة النخيل، منها دور السينما والمركز الثقافي الفرنسي و برنامج «بستان الأطفال». بعد كل هذه «الأعمال» ذاع صيت فرقة عبد اللطيف الجواي في مختلف أنحاء جهة مراكش، وأصبح معها اسمي متداولا بين المهتمين بالمسرح... دار الشباب التي أتحدث عنها ، والتي كان من روادها عشرات المبدعين، تحولت الآن، للأسف، الى قيسارية!! في سنة 1966 اتصل بي أحد المؤلفين المسرحيين اسمه ابراهيم اوجباير، واقترح علي القيام بأحد الادوار في مسرحية كتبها تحمل عنوان «إنسانيات فنان».. كان يريد ان يشارك بهذه المسرحية في إقصائيات المهرجان الوطني لمسرح الهواة، قبلت عرضه فكلفني بلعب دور شخصية إنسان يبدي للناس أنه يفهم في كل شيء ، والحقيقة خلاف ذلك ، إذ أن الخواء كان عنوان خزّانه المعرفي.. اسم الشخصية «الزويون». هذه المسرحية شارك فيها ممثلون كانت لهم مكانة فنية داخل مراكش وعلى صعيد المغرب ، منهم مليكة الخالدي، وعبد الحق باجدي ، بالاضافة الى المطرب الفنان عبد الواحد التطواني، كنت في تلك الشخصية أقلد الممثل المصري النابولسي.. وقد نجح الدور بشكل لافت، حسب العديد من النقاد، وازداد الحديث عن مولاي الطاهر في الوسط الفني المراكشي... خضنا الاقصائيات وتمكنا من المرور الى المنافسات النهائية بالرباط، حيث حصلنا على الجائزة الثالثة. في سنة 1967، يتابع الأصبهاني سبر أغوار طفولته البعيدة، سألتحق بجمعية «شبيبة الحمراء» التي كانت تضم عبد اللطيف الملاخ ابن عم الفنان عبد الحي الملاخ، و مولاي احمد بنمشيش ومخرج الفرقة كان هو عبد الكريم بناني.. كانت «شبيبة الحمراء» أكثر احترافية من الفرق السابقة التي كنت معها، في تلك السنة لم ينظم المهرجان الوطني للمسرح بسبب النكسة التي حلت بالعرب في حربها مع إسرائيل. في العام الموالي ستشارك هذه الفرقة في المهرجان بمسرحية اسمها «عويشة» لكاتبها الأستاذ الطيب العلج، لم نتجاوز الاقصائيات المحلية، وأصبنا بخيبة أمل كبيرة.. سنجتمع من جديد في سنة 1969 وسنتفق فيما بيننا حول الهدف من نوعية المشاركة ، إذا كنا فقط سنكون من منشطي المهرجان فلا داعي للعمل، وإن كنا سنشارك بعمل قوي فما علينا إلا أن نشمر عن سواعد الجد والمثابرة ونبحث عن أعمال جيدة.. لحسن حظنا سيتصل بنا الكاتب الغالي الصقلي عارضا علينا نصا متميزا اختار له كعنوان «اقريقعة».. قام الاستاذ عبد الكريم بناني بإخراجه، وعلى ذكر هذا الأخير، فقد كان شخصا مبدعا، كيف لا والرجل ذو ثقافة واسعة، حيث كان يدرس الترجمة في السلك الثاني، كما أنه يعد خزانا ثقافيا في المدينة، يعشق المسرح بشكل جنوني ويمارسه بعقلية احترافية...