خلال فصل الصيف، حيث ترتفع درجة الحرارة، نجد العديد من الأسر تشد الرحال نحو المدن الشاطئية قصد الاستمتاع بعطلة الصيف بالقرب من مياه البحر وجمال مناظره الطبيعية الخلابة ، وهي فرصة لتغيير الجو رفقة العائلة ، كما يجدها الأطفال والشباب فرصة مواتية للاستحمام وتفجير ما يملكونه من طاقات رياضية وإبداعية في مياه تطفئ لديهم حر الصيف وتنعشهم ببرودتها وتداعبهم أمواجها ... كما أن المسابح تلعب دورا كبيرا خلال هذه الفترة، كونها تمثل فضاء مناسبا لممارسة العديد من الأنشطة، ومتنفسا لشريحة عريضة من المواطنين الذين لا يملكون القدرة المادية لقضاء العطلة الصيفية بإحدى المدن الشاطئية، نظرا لظروفهم الاجتماعية القاهرة. الصيف في سيدي بنور حار، والجو شبه جاف والشمس محرقة، وإذا كان الآباء ينشغلون عن هذا الجو الخانق بالانهماك في أعمالهم وتجارتهم، والنساء في أشغالهن المنزلية، فإن الأطفال والشبان يجدون مرتعهم في إشباع هواياتهم في كل مكان اعتقدوه صالحا لتحقيق ذلك ، غير أن هناك فئة من الأطفال والشباب وجدت نفسها تكبر وتترعرع وسط مدينة بعيدة عن البحر، وزادها الإهمال واللامبالاة بحقوق ساكنتها ومتطلباتها حرمانا أي مسبح يعوض عن البعد عن الشاطئ، حيث تفتقد المدينة لمسبح بلدي، ولا يوجد فيها سوى مسبح واحد ووحيد تابع لمعمل السكر، لا ينال حظ السباحة فيه إلا أبناء الأحياء المجاورة أو الفئة القليلة التي تتوفر لها إمكانات دخول المسبح ،ليختار الأطفال بديلا عن هذا كله بالسباحة في السواقي، وجهتهم نحو السواقي كمتنفس بديل، رغم ما تشكله من أخطارعلى صحتهم ، تلك هي حالة أطفال وشباب مدينة سيدي بنور التي حباها الله بخيرات متعددة ، إلا أنها بالرغم من موقعها وغنى جماعتها ، فهي ولحد يومنا هذا لا تتوفر على مسبح بلدي يحتضن أبناءها ويلبي حاجياتهم في السباحة والترفيه، والاستمتاع بمياه نقية عوض العوم وسط مياه السواقي الملوثة والتي قد يصابون بسببها بالعديد من الأمراض الجلدية أو غيرها، كما أنها تمثل خطرا على حياتهم ، حيث سجل غرق العديد منهم في ظروف مأساوية، ففي كل صيف تبتلع السواقي عددا من الأشخاص أغلبهم من الأطفال، وفي كل عام يغرق العديد من الشبان ، لا سيما في المناطق التي توجد بها السواقي الرئيسية ، وللغرق في تلك القنوات أسباب كثيرة يمكن للجهات المختصة »إن حاولت« تلافي نتائجها واستباق حدوثها، لكن يبدو أن تلك الجهات لا تقرأ، أو بالحدود الدنيا، لا تحب قراءة مثل هذه الأخبار، وطقوس الغرق لمن يود الاطلاع عليها بسيطة، تبدأ بجهل الضحايا بالسباحة، وتقدير عمق وخطورة تلك السواقي، وتنتهي بإهمال وزارة الفلاحة لقنواتها ومجاريها، التي تشكل »أفخاخا« للأطفال والشبان(السباحين) يسهل الغوص فيها ويستحيل الخروج منها؛ فجوانبها زلقة، وقعرها مليء بالطحالب التي تلتف على الشخص وتسحبه نحو مصيره المحتوم. وبالتأكيد نحن لا ننتظر من وزارة الفلاحة تنظيف قعر قنوات الري من الطحالب، كما قد يفهم البعض، ولا نطالب بوجود دوريات حراسة تمنع الناس على طول السواقي من السباحة، إلا أننا نرجو منها (كما كل عام) تركيب حواجز أو أسلاك على أطراف أقنية الري العميقة التي تسجل الغريق تلو الغريق، وضحايا قد لا يكونون من هواة السباحة، كما حدث العام الماضي على مستوى الساقية الرئيسية بكل من أربعاء العونات، و بني هلال، وأولاد عمران، حيث عرفت سقوط سيارات بها، فهل تقرأ وزارة الفلاحة وغيرها من الوزارات هذه السطور في بداية موسم الصيف؟ أم تبقى غارقة في طقوس وتقاليد متجاوزة إلى نهاية موسم الغرق؟ ويستمر زلزال لعنة الغرق يحصد أرواح أطفال وشباب لا ذنب لهم، كما وقع خلال شهر يونيو من السنة الفارطة، حيث توفي التلميذ المسمى قيد حياته ( عادل. م ) غرقا بالساقية الرئيسية المتواجدة على مستوى الطريق المؤدية إلى حد العونات، وذلك بعد أن اجتاز امتحانات الباكالوريا بيوم واحد تاركا آلاما وحزنا في نفوس أهله وزملائه وأساتذته بالثانوية التأهيلية الإمام الغزالي . إن للسواقي الرئيسية طابعا تتميز به، إذ تعد نقطة التقاء بين أبناء العديد من أحياء المدينة والدواوير المجاورة الذين يقصدونها جماعات منذ الساعات الأولى للصباح، حيث تجدهم يملأون جنبات الطرقات في اتجاه السواقي محملين بمحافظ وأكياس من البلاستيك يبدو أنها تحتوي على بعض الحاجيات والمواد الغذائية، ولأجل تسليط الضوء على معاناة الأطفال في هذا الفصل من السنة، والأخطار التي يركبونها لأجل تلبية رغبتهم في العوم، والتمتع ببرودة المياه، قمنا بزيارة استطلاعية لعدة مراكز توجد بها سواقي رئيسية للري بدائرة سيدي بنور، حيث توجهنا على متن دراجة نارية في الوهلة الأولى نحو الساقية التابعة لجماعة المشرك المتواجدة على جانب الطريق الوطنية الرابطة بين سيدي بنور والجديدة، في حدود الساعة التاسعة صباحا، ونحن نقطع تلك المسافة، كانت أفواج من الأطفال والشباب متوجهة في شكل مجموعات نحو الساقية، وهي الفرصة التي سمحت لنا بمرافقة بعضهم راجلين، نتبادل معهم أطراف الحديث حول عدة قضايا ( الدراسة ، الوضع الاجتماعي، الجو ، آراء حول قضايا محلية .. ) كما كانت مناسبة لأخذ آرائهم حول العوم بالسواقي ، وبهذا الخصوص صرح الطفل عبد المجيد البالغ من العمر 11 سنة، يقطن بدوار العبدي " ليس لنا من بديل عن السواقي، فنحن نجد فيها مكانا مناسبا لقضاء يوم بأكمله في اللعب والتمتع بالعوم ، كما أننا نجتمع حول " الخردولة " التي يتم تهييئها بالتناوب بيننا . " وعن ساعة العودة و مطاردة المراقبين لهم والأخطار التي قد تلحق بهم رد قائلا : " لا يوجد أي مراقب بالمكان، وبالتالي فإننا نقضي النهار كله دون خوف من مطاردة أي شخص أو جهة، إلى أن نعود إلى منازلنا في حدود الساعة السادسة مساء، أما بخصوص الأخطار، فهناك مكان للعوم لا يمكن لمثلي أن يغرق فيه أو يقع له مشكل ، المهم أنا لست خائفا، وأعرف السباحة جيدا... " ونحن نحاور عبد المجيد كان رفاقه ينفجرون بالضحك بين الفينة والأخرى نتيجة حركاته الجسدية و أسلوبه في مخاطبتنا، هؤلاء تتراوح أعمارهم ما بين 9 سنوات و11 سنة، كلهم يتابعون دراستهم الابتدائية بالمدينة، يحملون معهم قليلا من الخضر ( البطاطس ، البصل ، الطماطم ، الجزر) بالإضافة إلى بعض التوابل و الخبز، وكذا إناء كبيرا للطهي، وكأنهم خرجوا في نزهة، كل واحد مسؤول عن نفسه ... ودعناهم والفرحة مرسومة على محياهم، لنواصل طريقنا نحو الساقية، حيث شد انتباهنا هناك ذاك العدد الكبير من الأطفال والشباب وحتى بعض الرجال من سائقي الشاحنات الذين توقفوا لأخذ قسط من الراحة قبل مواصلة الطريق ، السيد محمد البالغ من العمر 47 سنة، سائق شاحنة، تحدث للجريدة قليلا : " ألفت العوم هنا بهذه الساقية، حيث أتوقف بها كلما مررت من هنا ، فالعوم بها يجعلني أشعر بارنتعاش كبير يغيب معه التعب والملل، وهي فرصة لمشاهدة الأطفال وهم يسبحون ... " عدد الأشخاص الذين وجدناهم بالساقية يتجاوز الثلاثين، صياح هناك، وضحك هنا وجدال بين البعض منهم حول كيفية العوم والغطس. في جانب أخر، بجوار الساقية، توجد العديد من قنوات الري الممتدة على طول الطريق مخترقة الحقول والمزارع. على بعد حوالي 4 كلم في اتجاه جماعة بني هلال كانت مجموعة من الأطفال تقفز بحيوية ونشاط لتسقط وسط مياه قناة الري ، ما أن اقتربنا منهم لمحاورتهم وأخذ بعض الصور، حتى اجتمعوا حولنا بشكل تلقائي مطالبين بأخذ صورة تذكارية رفقة مراسل الجريدة، كانت في تلك الفترة قطرات الماء تتساقط علينا نتيجة حركات بعضهم وسط المياه، فرحتهم لا تقاوم، بقدر ما أن بعض الأخطار و الأمراض المحدقة بهم لا يمكن لبعضها أن يقاوم، فالمياه ملوثة ولا تصلح بتاتا للعوم، فهي تحمل معها بين الفينة والأخرى أزبالا و أشياء أخرى تضر بصحتهم، وقد يصابون بأمراض الجلد، العيون، الحساسية. وقد يصابون بالتسمم، ناهيك عن احتمال غرق بعضهم، فيكون مصيره الموت المحقق . نظرا لموقع سيدي بنور وطابعها الفلاحي، فهي محاطة بالسواقي على مستوى الجهات الأربع، لذلك واصلنا مهمتنا بالتوجه نحو الساقية المتواجدة على مستوى الطريق الرابطة بين مدينة سيدي بنور وحد العونات بالقرب من دوار سيدي امحمد العوني، حيث وجدنا أطفالا وشبابا على اختلاف الأعمار، منهم من يمارس السباحة و منهم من هو ممتد على حافة الساقية، ومنهم من أخذ مكانا يجلس فيه في انتظار استجماع أنفاسه من جديد لمواصلة العوم، ومنهم من يلهو بمياه الساقية، ملابسهم متناثرة على شكل أكوام وضعت متفرقة حتى يسهل مراقبتها من بعيد، يقول أحد الأطفال: " أقطع تقريبا مسافة كيلومترين أو أكثر لأجل الوصول إلى الساقية المتواجدة بالقرب من محطة توليد الكهرباء، رفقة مجموعة من أبناء الحي، نلعب هناك ونستمتع بالعوم لعدة ساعات، بينما يتجه آخرون من أبناء نفس الحي وغيره إلى السواقي المتواجدة خارج المدينة في اتجاه مدينة الجديدة، أو تلك المتواجدة على الطريق المؤدية إلى جمعة امطل ...أفضل هذه الساقية لأنها عريضة وأتقن العوم فيها، كما أنني أساعد أبناء دربنا على تعلم السباحة هنا... » للسواقي أسماء خاصة بين أطفال و شباب المنطقة فمنها الهرابة، الزرقاء، العشرة السنترو...وهي أسماء تحمل أكثر من دلالة لديهم، كونها تميز كل ساقية عن غيرها، غير أنهم يظلون متجاهلين الأخطار المحدقة بهم، إنهم يعانقون مخاطر العوم بالسواقي في ظل استمرار غياب متنفس أو فضاء بمواصفات قانونية وصحية يمارسون فيه السباحة ويفجرون فيه طاقاتهم الرياضية، كما يظل لغياب مراقبة الجهات المسؤولة لهذه السواقي وكذا الأسر لأبنائها دور في ما يلحق بهم من أخطار.