ننشر سلسلة حوارات مع سياسيين، ومناضلين ومفكرين واقتصاديين وباحثين منشغلين باسئلة المغرب الراهن، علي ضوء عشر سنوات من العهد الجديد. ونحن نريد بذلك حوارا مع الفاعلين ومع تحولات هذا الواقع المغربي نفسه ، الذي بدأت ابدالاته الكثيرة تطرح نفسها على الحاضر والمستقبل. في السياسة كما في الاقتصاد أو في التمثل الثقافي، جاء العهد الجديد بالكثير من المتغيرات كما أنه يحافظ على الكثير من الثوابت..وكما يحدث في كل فعل تاريخي ، يكون الجوار الزمني بين الحاضر والمستقبل موطن افرازات وانتاجات، مادية وتاريخية تستحق المساءلة والاستنطاق. اليوم مع الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية الأستاذ مولاي إسماعيل العلوي { امتدت فترة الانتقال الديمقراطي لمدة سنوات، حيث عاش هذا الانتقال تحت ظل حكمين، حكم الملك الراحل الحسن الثاني، وحكم محمد السادس، كيف تقيمون الانتقال في ظل المرحلتين، وما هو مآل الانتقال اليوم؟ > أنا لا أقول بوجود فترة يمكن أن نلقبها بفترة الانتقال الديمقراطي وذلك لسبب بسيط هو أن المجتمعات ، كل المجتمعات حتى تلك التي لها باع طويل في الممارسة الديمقراطية (التمثيلية)، تعيش باستمرار فترة انتقال ديمقراطي. إن الديمقراطية وهي مفهوم يجب أن لا نحصره في الجانب الانتخابي التمثيلي إذ يهم، حسب تصوري، الميادين الأخرى للحياة المجتمعية من اقتصاد وثقافة وعلاقات اجتماعية، مسلسل لا نهاية له وتشييد مهدد، على الدوام، بالزوال والتآكل. وبالتالي فجميع المجتمعات تحيى فترة انتقال ديمقراطي. ولتأكيد ما أقول آخذ مثل الولاياتالمتحدة. أتظنون أن المجتمع الأمريكي في مأمن من التراجع في ميدان دمقرطة حياته الوطنية العامة؟ إن كان الأمر كذلك كيف يمكن أن نلقب فترة قمع الفهود السود وتصفيتهم جسديا خارج كل الضوابط القانونية؟ وكيف يمكن أن نلقب الراهنية المبنية على أسس ما تضمنه قانونا «العقد الوطنيI و II» (Patriot act I et II) ؟ ألم يجعل مكتسبات الشعب الأمريكي في ميدان الديمقراطية والحريات في كف عفريت علماً أن وصول «أوباما» إلى الرئاسة لم يغير، لحد اليوم شيئا، من هذين القانونين؟ يمكن كذلك أن نتأمل في مثل بريطانيا التي جعلت عمليا حداً لنظام «جسدك ملك لك « Habeas corpus الذي كان يضمن للمواطنين حقوقهم الفردية التي لها علاقة مباشرة مع مفهوم الديمقراطية؟ والأمثلة كثيرة تبيح لنا حث الكلام عن عدم انتهاء فترة الانتقال الديمقراطي في أي بلد مهما كان نوعه وحجمه. إن فترة الانتقال الديمقراطي ظاهرة لا حد لها في الزمان لكنها متصلة اتصالا متيناً بموازن القوى فكلما أفل نجم القوى المؤمنة بالديمقراطية ( في شموليتها أو في جزء منها) كلما ضعف حظ تعميق مسير الديمقراطية نحو الأحسن والأمتن. وكلما تقوت القوى الطامحة في المزيد من الديمقراطية كلما تحققت مكتسبات في الميدان. وانطلاقا من هذه المعطيات ندرك تمام الإدراك أسباب تباطؤ ما يسمى بفترة الانتقال الديمقراطي في بلادنا. في ظل حكم الحسن الثاني رحمه الله كان نجم قوى التقدم الراغبة في دمقرطة البلاد يلمع ويسطع. وبعد عقد من ذلكم الزمن تراجع نفوذ هذه القوى لأنها فرطت في وحدتها ولم تتشبع بمضمون الميثاق الذي سبق لها أن وضعته قبل الإعلان عن تكوين الكتلة الديمقراطية الخماسية المكونات. كما أنها تركت تآكل نفوذها الناتج عن ممارستها للسلطة وتدبيرها للشأن العمومي يتغلب على مكانتها لدى الرأي العام لأنها لم تشرك الجماهير في كل قراراتها ولم تطلعها على كل الأسباب والمسببات التي تحكمت في مواقفها منذ تحملها مسؤولية تدبير الشأن الحكومي. إن مآل الانتقال الديمقراطي بين أيادي الراغبين في تكريس الديمقراطية في البلاد مهما كانت أطيافهم. وهذا يفرض على هؤلاء أن يتحاوروا ويصيغوا وثيقة وأرضية تأخذ بعين الاعتبار كل ما أتى به التطور الذي حصل منذ ما يناهز 15 سنة إذا اعتبرنا أن الميثاق الذي صيغ سنة 1991 يحتاج إلى مراجعة وتحيين. { 10 سنوات من حكم الملك محمد السادس، لم يسجل فيها لحد الساعة أي تغيير على مستوى الإصلاحات الدستورية، ما هي قراءتكم لذلك؟ > صحيح أن قانوننا الأسمى لم يعدل منذ 1996 في حين أنه في حاجة إلى مراجعة. ويرجع سبب هذا الأمر إلى معطيين على الأقل: الأول متضمن في الجواب السالف والثاني له علاقة بحل قضيتنا الوطنية الأولى التي لم تصل بعد إلى النهاية. كثيرا ما نقول أن دستورنا شبيه بالدستور الفرنسي. هذا صحيح فيما يهم سلط رئيس الدولة، لكن هناك فوارق كثيرة بين الدستورين تكمن في كون الدستور الفرنسي يأخذ بعين الاعتبار مجموعة من الحالات. ففيما يهم الجهات والهيكلة الترابية مثلا، يدقق الدستور الفرنسي كثيرا، في حين أن قانوننا الأسمى يكتفي بإشارات سريعة ولا يتيح الفرصة لتأويلات إيجابية. تعلمون أن الرئيس الفرنسي زار مؤخرا جزيرتي «المارتينيك» و «الكوادلب» وتكلم عن منح الجزيرتين تدبيرا ذاتيا متقدما. ولم يكلفه هذا مراجعة الدستور بل كلفه فقط قراءة متأنية لهذه الوثيقة الأساسية. إن هذا العجز الحاصل في دستورنا يفرض مراجعة هذا القانون الأسمى؛ لكن التطورات السياسية الحاصلة في المنطقة لم تفصل بعد في قضية وحدتنا الترابية وبالتالي يبدو أن التريث في هذا الباب من الحكمة. هذا تأويلي لما يحدث علاقة مع إشكال مراجعة الدستور الوطني. لكن يجب أن لا ننسى أن الحياة السياسية تحكمها موازن القوى وبالتالي أترك للقارئ أن يستخلص خلاصاته. { ارتباطا بموضوع الإصلاحات الدستورية، ما هي الأولويات في هذا الباب بالنسبة إليكم؟ > فيما يخص الإصلاحات الدستورية التي نطالب بها ونناضل من أجلها فيمكن أن نصنفها إلى أربعة أبواب: 1) استخرج الخلاصات من تجربة دامت 12 سنة تجلت في برلمان ذي غرفتين لهما نفس الصلاحيات تقريبا مما يقربنا من العبث. لسنا بالضرورة ضد ازدواجية الغرف في البرلمان لكن نعتبر أن الغرفة الثانية أو الغرفة العليا، (لقِّبوها كما تشاءون) يجب أن تتحول إلى غرفة الجماعات المحلية في حين أن المجلس الاقتصادي والاجتماعي المنصوص عليه في الدستور فسيكون بالأساس مجلسا يرتكز عمله على القضايا التي تهم الشغيلة والمهنيين بجميع أصنافهم. 2) الاهتمام أكثر بالجهات مع تصنيفها وإعادة النظر في صلاحياتها وسلطاتها أخذا بعين الاعتبار إرادة المغرب في منح نظام متطور للتسيير الذاتي لأقاليمنا الجنوبية الغربية. وعندما نتحدث عن إعادة النظر في الصلاحيات والسلطات التي ستمنح للجهات، فهذا يعني تعميق مفهوم اللاتمركز وتعميق دمقرطة التسيير مع مساعدة النخب الجهوية على البروز، وهذا يقتضي تطوير الحكامة بشكل قوي. 3) خلال العقد الأخير حققت بلادنا مكسبا هائلا باعترافها بأن كياننا الوطني يستند من بين ما يستند عليه، على تراثنا و موروثنا الأمازيغي ،وما إنشاء المعهد الملكي للتراث الأمازيغي إلا خطوة أولى على هذا الدرب. لذا نعتبر أنه حان الوقت لدسترة الأمازيغية ثقافة ولغة. 4 ) في ميدان القانون وبعد الإجماع الحاصل حول التأكيد على احترام حقوق الإنسان كما هو متعارف عليه عالميا ودوليا لقد حان الوقت - دون التفريط في شبر من السيادة الوطنية - لنقول صراحة بأولوية مضامين المعاهدات الدولية التي صادق عليها المغرب وملاءمة-بالتالي- قوانيننا مع محتوى هذه المعاهدات. وهذا يحتم الخوض المتبصر، لكن الصارم، في مراجعة أوضاع قضائنا مع التأكيد على ضرورة احترام استقلاليته إزاء كل السلطات التنفيذية والتشريعية. بالنسبة للسلطة التنفيذية هناك ضرورة تقوية صلاحيات مؤسسة الوزير الأول تفعيلا لمضمون المادة 65 من الدستور التي تشير إلى هذه الصلاحيات وتجعل من الوزير الأول المشرف و المنسق لجميع المرافق الحكومية و بالتالي لجميع الإدارات. ونظرا لكون مغرب اليوم ليس مغرب بداية الستينيات فمن المفيد أن يمر تعيين كل المسؤولين الساميين في دواليب الدولة أمام مجلس الوزراء الذي يرأسه الملك بعد أن تكون الحكومة قد تداولت في الموضوع من ذي قبل. ويقتضي تدعيم صلاحيات الوزير الأول تقوية الطاقم المساعد له، غير أن هذه الإصلاحات وغيرها التي لم ترد في هذا الاستجواب والتي يمكن أن تبرز من خلال الحوار والنقاش اللذين يمكن تنظيمهما داخل أحزابنا أو تكتلاتنا، ستبقى حبراً على ورق حتى وإن أدرجت في نص الدستور إذا لم تكن مصحوبة بتغيير في العقليات وبالمساهمة الواعية للمواطنين والمواطنات في تتبع ومسايرة الحياة الوطنية. { كيف تنظرون إلى المطالبة بالإصلاحات الدستورية، هل بشكل منفرد أم عن طريق تكتل مع القوى التي ترون أنها تتقاسم معكم نفس الرؤية؟ > لضمان نفاذ المطالبة بالإصلاحات الدستورية يجب أن تندرج في عمل جماعي وأن تنجم عن توافق وتراضي بين الفرقاء الفاعلين في الساحة السياسية. طبعاً هذا المسعى لا يمنع من أن تتقدم هيئة سياسية بشكل منفرد بمقترحاتها لكن سيكون لهذه المقترحات وزن أكبر إن تقدمت بها مجموعة من الهيآت التي تتقاسم تصوراتها ومنظورها. ومهما كان من أمر علينا ألا ننسى أن كل تغيير في القانون الأسمى لأي دولة رهين بموازن القوى وبإنضاج الأفكار المجددة. { ما تقييمكم للأجواء التي مرت فيها الانتخابات الجماعية الحالية؟ > تميزت الانتخابات الجماعية التي عرفتها البلاد في شهر يونيو المنصرم بمظاهر متناقضة وبمفارقات غريبة. أولها هو أن حزباً ظهر حديثا وتموقع في المعارضة لحكومة الملك ليلة الاقتراع، استطاع أن يرشح أكبر عدد من المرشحين وحاز على ما يربو على 20% من الأصوات المعبر عنها. والغريب في الأمر هو أن هذا الحزب المعارض للحكومة التي أكد صاحب الجلالة ثقته فيها ودعمه لها 24 ساعة بعد إعلان هذا الحزب عن خروجه من صفوف الأغلبية ، يدعي أنه هو الحامل لمشروع الملك الذي تسعى جادة الحكومة تفعيله على أرض الواقع ! هذه هي المفارقة الأولى التي طفت إلى السطح بالنسبة للمراقبين. أما الظاهرة الثانية (وأعتبرها أكثر خطورة من كل الظواهر التي همت العمليات الانتخابية) هي أن من بين العشرين مليونا من المواطنين الذين وصلوا سن الرشد الانتخابي، 13 مليونا منهم ،هم الذين سجلوا أنفسهم في اللوائح الانتخابية، و 7 ملايين منهم هم الذين قاموا بواجبهم الانتخابي علماً أن مليونا من هؤلاء الآخرين ألغيت أوراق تصويتهم لأسباب مختلفة منها الموضوعية ومنها الذاتية. معنى هذا أن أقل من ثلث المواطنات والمواطنين هم الذين أدلو برأيهم، و بالتالي علينا نحن في الصف الديمقراطي، وفي اليسار بالخصوص، أن نتمعن كثيرا في هذا الواقع ونجد السبل والطرق من أجل ربط الصلة مع هؤلاء الذين يفضلون الابتعاد عن الساحة السياسية وأغلبهم لا محالة من الشباب. من دون شك أن الممارسات التي سار و يسير عليها عدد من الأحزاب لا تحفز أحدا على دخول حلبة المعركة السياسية، لكن، في نفس الوقت، يجب أن نقول بشكل قوي أن هذا العزوف لا يخدم التغيير ولا يخدم تطوير دمقرطة هياكل البلاد ويحرم من يسلكه من حق أساسي بل من سلطة خفية ولكنها أساسية ألا وهو التصويت الذي يمثل في الواقع سلطة هائلة تمنح لكل مواطن ومواطنة مرة على رأس كل 5 سنوات بالنسبة للانتخابات التشريعية ومرة على رأس كل 6 سنوات بالنسبة للاقتراع المحلي. إن هذا العزوف المرهب لا يساعد على تصحيح الأوضاع و تنقية الساحة من المفسدين. وإذا كان المواطنون والمواطنات الشباب يرغبون فعلا في تغيير الأوضاع نحو الأحسن،فعليهم أن يدركوا مدى مسؤوليتهم و يساهموا في نصرة قوى التغيير بالتصويت والمساهمة النشيطة في العمليات الانتخابية. و إلا ستبقى لمدة دار لقمان على حالها إلى حين تزداد الأوضاع تدهورا. و نجد أنفسنا جميعا في ورطة لا مخرج إيجابي لنا منها. لقد يطول الحديث في موضوع الأجواء التي مرت فيها هذه الانتخابات الأخيرة وانعكاساتها على الساحة السياسية. { في ظل النتائج التي أفرزتها هذه المحطة الانتخابية، تبين أن منطق التحالفات لم ينبن على تقاطعات في البرامج والتصورات، ما هي الخطوات العملية التي ترونها كفيلة لتلافي مثل هذا الارتباك؟ > دعوني أعبر لكم عن غضبي للطريقة التي سارت عليها الأمور في ميدان التحالفات المحلية ولاسيما في المدن الكبيرة . وبالنسبة لهذه المدن الكبيرة إننا، نحن هيآت الصف الديمقراطي، نؤدي ثمن الأخطاء التي ارتكبناها سنة 2003 حيث تركنا المجال للخصوم ولم نتفق فيها بيننا في ذلك الحين. هكذا ضعنا في الدارالبيضاء وفي الرباط وفي مكناس والقائمة طويلة. لقد طالبنا، في حزب التقدم والاشتراكية أن نضع على الأقل، وقبل الانتخابات، برنامجاً مشتركاً لأحزاب الكتلة مدعومة بأحزاب اليسار من أجل تدبير شؤون المدن الكبرى. لكن لم نجد أذانا صاغية فأصبحت أحزاب الصف الديمقراطي تتحالف مع كل من هب ودب ولا حول ولا قوة إلا بالله. لقد حان الوقت لأن نلتقي ونبسط، في إطار موائد مستديرة، نقط اختلافنا ونقط تلاقينا ولي اليقين من أننا سنجد الأساليب الكفيلة بإعادة الثقة للمناضلين وللمواطنين في أحزابنا وفي خططنا. إن التاريخ لا ينتهي بانتهاء الفترات الانتخابية ومازالت أمامنا فرص استدراك أخطائنا. نحن على أتم الاستعداد في حزب التقدم والاشتراكية للمساهمة في أي لقاء، موسعا أو محدوداً كان للتدارس في أوضاع البلاد وفي أوضاع الصف الديمقراطي وفي أوضاع اليسار. { هل اليسار ضمن المنظومة الحالية يجب أن يكون إلى جانب الملكية بخصوص مشروع التحديث، أم يتطور في استقلال عنها؟ > أظن أن كل فاعل في الحقل السياسي، في أي مجتمع كان، مستقل إزاء الفاعلين الآخرين، لكن الاستقلالية لا تعني بالضرورة عدم التلاقي وإلا سيتحول المشهد السياسي إلى مشهد فسيفسائي غير ذي جدوى. إن التحديث هو مسعى نتواجد فيه مع المؤسسة الملكية وهذه فرصة تاريخية ثمينة بالنسبة للوطن والشعب المغربيين يجب أن نوليها كل الاهتمام وأن نصونها ونطورها. { خلال تجربتكم الحكومية، متى شعرتم بأن هناك خطوطا حمراء وأن هناك كوابح للإصلاح؟ > خلال السنتين ونيف اللتين قضيتهما في كل من وزارة التربية الوطنية ( التعليم الابتدائي والإعدادي حتى أضبط الأمور) و وزارة الفلاحة لم أتعرف على أي خطوط حمراء، ولم أضع لنفسي أي خطوط حمراء. كنت اشتغل في إطار البرنامج الذي وضعته الحكومة ووافق عليه البرلمان ولم يتدخل أي كان في تدبير أمور القطاعين اللذين كانا تحت مسؤوليتي. هذا لا يعني أنه لم توجد كوابح للإصلاح وأهمها هو جمادية الإدارة المركزية (inertie ) وتماطلها في بعض الحالات وهذا يعود بالأساس إلى السلوك البيروقراطي الذي يطبع إدارتنا عموماً.