لايبدأ صباحه، كالمعتاد، إلا بشرب فنجان القهوة مْعَ سَكَارِِِِِِِِِِِِِِِِِِينْ . تشعر كلما نظرت إلى عينيه، بأنه في يقظة دائمة. لايفقد هدوءه مع جلسائه. ينصت إليهم جيدا، ويستجيب لحساسيتهم الشخصية وحساسية اللحظة.. للوهلة الأولى، عندما يتحدث تكون أفكاره بسيطة مثل اللوحات التشكيلية التي يرسمها بيده. لكنه دقيق في معايناته، وينتبه كثيرا إلى التفاصيل المهملة. لديه رغبة في أن يحرر نفسه من المجرد، وأن يبدأ كل شيء من جديد. في إشراقات الصباح، أو في غروب المساءات، لايترك اللحظات تمر دون أن يدس فيها مذاق كوب قهوة، أو قهوة «نص نص» مْعَ سَكَارِِِِِِِِِِِِِِِِِِينْ . أحيانا، تشعر بأنه مهيأ، وجاهز دون علم منه للانخطاف الذي سيفاجئه. وأحيانا أخرى، تشعر بأنه هو من سيفاجئ الانخطاف. يحدث له هذا مع الأفكار الفنية.. ومع الموسيقى. لديه حرص شديد على إتقان الأشياء الفنية موسيقيا ، ذلك لأنه يريدها أن تكون دقيقة ومضبوطة. إذا كان يهيِّئ أغنية أو لحنا، ولم يكن له تاريخ محدد، قد يستغرق في إعداده وقتا طويلا. مهووس بحب اقتسام المتعة الفنية مع الأصدقاء. تجده دوما متحمس للاشتغال، وإنجاز العديد من الأمورالشخصية والعائلية والمهنية. هو كل يوم يُخْلَق، يتعلم الكلام، ويتعلم العلاقات مع الناس. قطع المهدي عبدو ، عشرات السنوات متعددة الاتجاهات. مر بتجارب كثيرة ومتعاقبة. تعارك ببطء وفي صمت، ولكن بجرأة، مع مايحتويه الفن من أضواء، وأحلام، وأطياف، وروتين، وتكرار... عبَّر عنها من خلال الموسيقى.. الصمت عنده، ليس هو غياب الحركة من العالم.الصمت هو الذي يجعل الإنسان يتساءل عن موضعه في العالم. الصمت هو الحياة والطبيعة في داخله. لهذا يكون، في بعض الأحيان، أفضل من الكلام، لأنه يؤدي بك إلى مشارف الذات، ويضعك في مواجهة العالم. إنه من طينة الفنانين الذين ينتصرون للفن الحقيقي. أناقته وثقته الصامتة وعفويته المخبأة في أحشائه توهم الآخرين بأنه مستكفٍ عن الرأي. ورأيه أن الاجتهاد وحده سلاح ضد كل بوادر العلل والاحتقان والنسيان التي يمكن أن تحدق بالفنان المغربي. المهدي عبدو، هذا الموسيقار، يستمع أكثر مما يتكلم، يحب الفن ويعشق الموسيقى بدون ضجيج، لا يلهث وراء سمعة فنية مزيفة، ولا يخلف وراءه إلا الإعجاب الصادق أينما حل وارتحل.. الحديث عن فنان مبدع من حجم المهدي عبدو، يقتضي منا وقفة طويلة لنستوعب بعضا من تجاربه الفنية القديمة والجديدة. وما أضافه للأغنية المغربية عندما كان ولايزال هو وزمرة أخرى من الموسيقيين، يحاول تجديد دماء الأغنية المغربية، حتى تنطلق مرة أخرى وهاجة مشرقة تخاطب الناس من جميع الأذواق ومختلف الحيثيات. وهكذا جاءت جل ألحانه سهلة شفافة تنسل للقلب والوجدان. قبل أن تصافح الذات. إنه واحد من أصحاب الألحان التي تتخطى كل الحواجز.. تقدم نفسها بنفسها. ولا يجد السامع أي مشقة في التواصل والتجاوب معها. علاقته الفنية، بأخته الفنانة عائشة الوعد، متكاملة ، تميزها قوة الاتزان والمثابرة والنظام والكفاح عند عائشة الوعد، وما تضيف طاقاته الفنية والابداعية لهذه العلاقة الفنية، التي حققت تجاوبا مع الجمهور بفعل إلتزامها الفني. لقد تخطى الموسيقار المهدي عبدو، سنوات من الحضور والعطاء والإنتاج الغنائي والموسيقي. تعامل مع عدد وافر من الشعراء والزجالين والموسيقيين، وسافركثيرا في دروب البحث والتنقيب عن النوتات والجمل الموسيقية، وانفتح على التراث الموسيقي الوطني والإنساني، وأقام جسورا مع كبار الفنانين في الحقل الغنائي العربي، ونال ثقتهم ومحبتهم وتقديرهم.. وغنى للحب والجمال الطبيعي والإنساني والسلام ، ولكل قيم الوفاء والتضحية والتعلق بالوطن. يعود المهدي عبدو، دائما، إلى اختياراته الفنية التي تجمع مابين اللحن والغناء و الدقة الفنية في الآداء وتوظيف المقامات في الصوت، إلى جانب تأليف موسيقى الأفلام و الوصلات الاشهارية ..، معتبرا أن الأصداء الطيبة التي خلافتها أغانيه ، نذكر منها : «سلموا لي عليه»، «دق الطبول»، «ظلمتي وبكيتي».. وآخرهم أغنية «تْعَال تشوفْ» ، خيردليل على الاقبال الذي تحققه أغانيه التي تجلت، فيها جُمله الشخصية وحضوره الذاتي الخاص .. إن المهدي عبدو ، هو أحد أسمائنا الفنية المغربية المعاصرة في المجال الثقافي والفني. وإذ نذكره الآن ، فإنما نذكره ضمن كوكبة الفنانين المغاربة الكبار..