الأعمار بيد الله، لكن فقدان القيم بقدر ما يثير الأسى والحزن، بقدر ما يدعو إلى وضع إطار شريف للمفقودين والمغادرين الشرفاء الذين كانوا قيد حياتهم مفاخر لأمتهم ولوطنهم، بل وللعالم العربي. والمرحوم ادريس جوماد واحد ممن يحملون هذه المواصفات النادرة، حيث ظل وعلى توالي عدة أجيال مصدر إعجاب رياضي وأخلاقي وإنساني وحضاري ليس من طرف عشاق الحمراء المغاربة والمغاربيين فحسب، بل لدى العديد من الفرق الفرنسية التي حفزته على الاحتراف لديها لمدة معينة. عندما يتصدر ابا دريس إحدى واجهات مقاهي عين الذياب بين جلسائه وأصدقائه تبهرك في رؤياه بيضاويته اليافعة وسمرة الشباب الدائم والصدر المفتوح على المودة والحب وتسريحة شعره التي تعاند التقدم في السن مع الإصرار على إبراز الانشراح في خضم الآراء وإبداء النصح واستعراض التجارب واستذكار لوحات الزمن الرائع، زمن الثلاثية الخالدة، حيث يتسدرجه صديقه عبد الرزاق الزرقطوني (شافاه الله) فيثير فيه إحدى اللحظات المنسية في هذا الملعب أو ذاك وفي هاته المباراة أو تلك في المغرب أو في الجزائر إبان بطولة شمال افريقيا. وعندما كان رحمه الله يعرج على الميناء، كان لابد وأن يغرق في حفاوة النجم الساطع الحاج عبد الرحمان بلمحجوب أمام فنجان قهوة تحبل جرعاتها بماض مزدهر بمبارياته العظيمة ورجالاته وإصرارهم الحضاري بالظهور المتساوي مع المستعمرين لعباً ومظهراً وسلوكاً... لا يمكن لمن عايش زمن السي ادريس جوماد أن يراه وهو في أوضاع الانشراح تلك إلا أن يفتح آفاق الاستذكار فتترسل أمامه لوحات الإبداع التي صاغها المرحوم ابا لحسن جيكو من فتية قالوا مبكراً: »ها نحن عباقرة المستقبل« وهم يداعبون كرة التنس وكرة الرئة في فضاء الصقالة على مشارف سيدي علال القرواني وللا تاجة. ها هو الشتوكي يراوغ من هنا ويحول الكرة إلى جهة ما أمام مربع العمليات ليلتقطها ابا دريس وبحنكة المعلم الكبير يرسم الطريق للنفاثة عبد السلام ليقتحم المربع ويندفع ويتدافع أرضاً وجواً ليسجل الإصابة في مرمى أعتى الحراس الفرنسين إذ ذاك!!! لقد استطاع باجيكو أن يخلق من هذه المادة الموهوبة ما يتعذر على كبار المدربين إنتاجه وهو »الطانديم« الذي إذا ما توفر لفريق ما، فإنه يكون آلة لحصاد النتائج الباهرة، لأنه (الطانديم) يشكل منتهى التآلف والتفاهم واللغة المشتركة. وللتاريخ، فإن هذا المثلث الرائع يظل نموذجاً لم يتأت، وإن تأتى فبنسب قليلة إلا لبعض الأندية نذكر منها المولودية الوجدية وسطاد المغربي والكوكب المراكشي ونجم الشباب وفريق الرجاء، عندما أشرف على تدريبه المهندس الرائد ابا لحسن جيكو. إن جل الإصابات التي كانت الوداد في ذلك الزمن تسجلها،لابد وأن تكون مبصومة في هندستها بقدم السي دريس، والذي خلفه فيما بعد المرحوم عبد الحق القدمير بنكهة راقية، وذلك طبعاً ضمن مجموعة رجولية عتيدة قوامها المرحومان الحارسان ولد عائشة أو السي محمد الصوبيس ورجال الدفاع الأشاوس المراحيم: قاسم القاسمي، الفروج، الكنداوي، صطفى ولد لبحيرة والعفاري إلخ... ومؤطرون رواد في طليعتهم المرحوم الحاج محمد بن جلون. إن فضل المرحوم ادريس جوماد على كرة القدم الوطنية كبير، لأنه كان رحمه الله نموذجاً يستحق الإشادة في لعبه ونكران ذاته وإبداعاته. فما هي الصيغة التي ستخلده في مسار الجيل الحاضر والأجيال المقبلة كقيمة حضارية مغربية بل ومغاربية وعربية؟ رحم الله اللاعب الكبير والإنسان الفاضل ادريس جوماد آخر حلقة في الرصيد التاريخي لفريق الوداد البيضاوي. وعزاؤنا في فقدانه لأحبائه وأسرته ولفريق الوداد ماضياً وحاضراً ومستقبلا.