«من الصعب الكذب على الآخرين دون الكذب على الذات، وبقدر ما ينجح الكاذب في مهمته، بقدر مايصبح محتوماً أن يتحول إلى ضحية لاختلاقاته» حنا آرندت. السيد ج يجسد جيداً هذا الصنف من النخبة الحضرية الجديدة، هو صنف استفاد فيما يبدو من تشيؤ أصاب مفهوم القرب، تماماً كالتشيؤ الذي كان قد أصاب مفهوم المجتمع المدني قبله، فأصبح أكثر تداولاً ورواجاً في دنيا الناس وفي معيشهم اليومي من رغيف الخبز ذاته. ج. هذا رجل براغماتي النزعة، لا يطرح الأسئلة الزائدة حول ممارسته الميدانية، هو لا يقلق راحة عقله بالتساؤل مثلا عن مغزى التزامه المدني والجمعوي. لا يطرح ذاك النوع من الأسئلة الكبيرة والمعقدة التي أثارها خلال حقبة الثمانينات مثلا في فرنسا وأقطار أوربية أخرى، كل أولئك الذين دخلوا مجال العمل الجمعوي الرحب بعد انسحابهم من دائرة العمل السياسي على إثر ضمور بريق الإيديولوجيات، محاولين بذلك تجديد الأساسات الفلسفية والأخلاقية لالتزامهم المجتمعي. ج هذا لا يهمه طرح تلك الأسئلة الأكاديمية، وهو في الحقيقة يجهل حتى وجود ذاك النوع من الأسئلة. هو منغمس في عمل القرب وكفى. انسحاب فعاليات من العيار الثقيل في مجال السياسة الإيديولوجية في فرنسا وغيرها من الأقطار الديمقراطية، ابتداء من عقد الثمانينات الماضي، واندماجها في العمل الميداني، عمل القرب في كل الواجهات الفكرية والحقوقية والاجتماعية هذا الانسحاب، كان بالنسبة لتلك الفعاليات عملا واعيا وردة فعل مسؤولة، أدت في النهاية إلى مساءلة عميقة لمنطق ومنطوق الممارسة السياسية والمؤسساتية التقليدية، وكان من نتائج ذلك تجديد وتطوير وإغناء تلك الممارسة. ويكفي لتأكيد ذلك الإشارة إلى الدور الكبير، دور تجديد أشكال الالتزام السياسي الذي لعبته أسماء وازنة أثثت بحضورها ساحة النقاش العمومي من أمثال مارسيل كوشيه وريجيس دوبريه والسوسيولوجي الراحل بيير بورديو. السيد ج. لم يمر من أي مخاض من تلك المخاضات، لم ينسحب من ميدان سياسة إيديولوجية أو غير إيديولوجية، هو رجل خلق ليكون جمعوياً، وبالمواصفات التي صارت مطلوبة فيما يظهر لممارس العمل الجمعوي اليوم، رجل ينشرح محياه كلما تم الحديث بحضوره عن مستويات العمل الصغرى، مستويات الدرب أو الحي أو جزء من المدينة في أقصى الحالات، ومستوى المجموعات الصغرى، ما دون أو ما تحت الفئة الاجتماعية وعلى العكس من ذلك، فهو يقطب جبينه وتبدو عليه أمارات التبرم والضيق كلما أثيرت في مجامعه الصغيرة قضايا السياسة العامة أو الالتزام السياسي الواسع. لكن ج. مع ذلك رجل ذكي، بمقاييس الذكاء الانتهازي. يتوفر على خطابين نموذجين معلبين يستعملهما بالتناوب في اللقاءات والمنتديات والندوات العامة التي يستدعي لها، وذلك حسب طبيعة تلك اللقاءات والندوات وحسب طبيعة المواضيع المثارة للنقاش: فهو مع الجمعويين صاحب نقد صارم للممارسة السياسية والطبقات السياسية، التي يأخذ عليها الطابع التجريدي لعملها ونسيانها لرسالتها الاجتماعية والإنسانية، وهو في حضرة السياسيين حينما تجمعه بهم مواضيع وقضايا تتطلب حضورهم، رجل مؤدب، ودود، يحرص باللباقة المعهودة فيه على التأكيد بأن الالتزام المدني الجمعوي هو صنو الالتزام السياسي ومكمله، لا تناقض أو تنافس وج. هذا رجل يعرف كيف يتعامل، وكيف يستفيد من الخطاب النمطي لعدد من المؤسسات التمويلية الدولية التي صارت تشترط مرور مساعداتها عبر البنيات والمؤسسات الاجتماعية. ج يتقن لعبة حمل المشاريع، يتقن تقديم الشروحات بالكمبيوتر أمام الخبراء. يتقن جيداً تفسير الأهداف والفئات المستهدفة وغيرها من المفردات المحلية. يستفيد من أريحية تلك المؤسسات التي بفضل وسائلها يتمكن من كراء مقر لائق بأثاث وثير وتجهيزات مكتبية متطورة. ج. هذا يعرف كذلك من أين تؤكل كتف المبادرة الوطنية للتنمية البشرية. راكم على امتداد سنوات تجربة في بناء المشاريع الصغرى والمتوسطة «المدرة للدخل» والممتصة للهشاشة الاجتماعية. ج هذا في بعض مواصفاته، يذكرني بما كان قد حكاه لنا السيد لويس أيالا السكرتير العام للأممية الاشتراكية خلال لقاء لهذا المنتظم عقدها بماماكو منذ ثلاث سنوات، وقد كان قد تم على هامش لقاء كبير عقدته الحركات المطالبة بعولمة مغايرة. كان السيد أيالا يتحدث عن مبالغات بعض المؤسسات التمويلية الدولية بخصوص التعامل التفضيلي مع الجمعيات، وتناقض هذا المسعى، في الكثير من الأحيان مع متطلبات تطوير كفاءة الأحزاب والمنظمات السياسية الموكول لها القيام بأدوار تعبوية وتمثيلية طبقا للأعراف الديمقراطية ذكر لنا السيد أيالا أنه التقى ذات يوم بأحد الموظفين الكبار في أحد أقسام تمويل التنمية الاجتماعية الدولية على مستوى الاتحاد الأوربي ببروكسيل. هذا الموظف الكبير حدث السيد أيالا عن مشروع كبير يموله الاتحاد الأوربي تضطلع به إحدى الجمعيات في مدينة سانتياغو عاصمة الشيلي. مضى أيالا يحكي أنه خلال قضاء عطلته في سانتياغو بالشيلي (بلده الأصلي) تذكر كلام الموظف الكبير في بروكسيل فراح يبحث ذات مساء عن مقر تلك الجمعية التي تعنى بأطفال الشوارع وتستفيد من مئات الآلاف من الدولارات كدعم سنوي. وكانت دهشته كبيرة حينما وجد مقر هذه الجمعية، مقر به تجهيز وتشتغل به كاتبة لا يتعدى أجرها 300 دولار، وكانت دهشته أكبر حينما علم من الكاتبة، وهي الموظفة الوحيدة للجمعية أن رئيس هذه الجمعية موجود بألمانيا في إجازة مطولة منذ أزيد من ثلاثة أشهر. السيد ج. يشبه في بعض المواصفات، وإن بصورة أقل قوة، رئيس الجمعية الشيلية المذكورة. هو دائم الترحال والتجوال بين العواصم الأوربية. هو ذا نموذج من صنف القرب المغشوش. العناصر المتألقة من هذا الصنف من النخبة بدأت تفكر في الدخول إلى معترك العمل الجماعي البلدي، ولاشك أنهم عند دخولهم سيتركون بصماتهم على هذا العمل، اعتباراً لما سيحملونه إليه من تقاليد وعقليات. المشكلة مع هؤلاء أنهم قد يدفعون إلى تفتيت ما تبقى من أوحال السياسة بتحويلها من التزام بمشروع مجتمعي كبير إلى مجرد تصريف يومي لما يسمونه في اللغة المتحذلقة بالميكرو مشاريع Micro projets المشكلة مع هؤلاء أنهم قد يدفعون إلى الاستعاضة عن الديمقراطية التمثيلية، وحتى التشاركية بما أسماه في يوم ما الصديق عبد الرحمان غندور ب «ديمقراطية فريني»، أي إعطيني نصيبي هنا والآن وبسرعة. وقد رأينا شيئا من هذا خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة، حينما تصادمت الفكرة الكبيرة بالخدمة الصغيرة. والبرنامج الاقتصادي بالعمل الإسعافي. ومن المؤكد أن نخبة القرب المغشوش قد تعمق استقبالا هذا التوجه الناسف للسياسة من الأجناس. (يتبع)