مرغ شباط القضاء في الوحل، ورفع درجة الاستخفاف إلى مستوى غير مسبوق بتاتا في الحياة الوطنية، حتى عندما يتعلق الأمر بمحاكمة تجار المخدرات وباعة الحشيش وقطاع الطرق.. وسب هيئة الدفاع و«تشبط» بمحام أمام الملأ وفي غياب تام للأمن داخل المحكمة.. وعادت الذاكرة بالجميع إلى الجريمة التي وقعت في ردهات المحكمة والوفاة التي نتجت عنها، وظهر أن بالإمكان، في المستقبل أن تجري أطوار الجلسات تحت ظلال السيوف والمتفجرات والهراوات الحديدية.. وبطبيعة الحال، بعد أربعين سنة سيأتي «ولد شباط» الصغير ليتهم المحامي بأنه ضرب والده ويطالب باعتذار الدولة المغربية.. هكذا يصنع المنحرفون الانتقال في هذه البلاد..والأنكى من ذلك أن الذي يقف عاجزا أمام جدعنة شباط وتهوره هو الوزير الأول، الذي يمثل بالفعل الجهاز التنفيذي.. لقد أعطت السلطات الأمنية معنى أجوف لاستقلال القضاء، حيث أقنعتنا بالفعل بأن القضاء مستقل في اللأمن، ويمكن لأي كان أن يمرغ رجله فيه بدون أن تتحرك قوات الأمن التي تهرع بسرعة كبيرة إلى تكسير أضلع المعطلين عندما يقفون في الشارع بدعوى عرقلة السير... نحو الانتقال الديمقراطي العظيم! أو تهرع بسرعة فائقة لتكسير جماجم المتقاضين الذين يتجمهرون من أجل قضية وليس ضد القضاء، كما حدث منذ أسبوعين ولم تجد السلطة ما ترد به سوى تهريب المدعو شباط من باب الخلفي عندما كان المحامون يتدارسون الوضع مع وكيل الملك.. لقد تمت زراعة الاختلال بحراسة مقربة من الشرطة.. ولهذا يجب أن نخاف فعلا على بلدنا.. وليس غريبا أن يتم، في نفس الوقت تظاهر المحامين ضد قاضي التحقيق بالدار البيضاء، يتقدمهم من حضروا كبريات المحاكمات واحتجوا على القضاء العسكري وكبار القضاة في البلاد أثناء محاكمات الجمر. ولم يقفوا وقتها بالشعارات ولا بالقبضات المرفوعة في الهواء.. كانوا يحتجون صامتين، أما اليوم فقد اضطروا إلى أن يعلنوا درجة الامتعاض من خلال ما يقوم به القاضي في حقهم. قاض بعينه وليس كل القضاة، ومنهم كثيرون، يمكن اعتبارهم أولياء الله الصالحين، لأنهم في هذا الوسط يحتفظون بنزاهتهم واستقلالهم وضميرهم حيا يقظا.. لقد تظاهر المحامون ضد القاضي سرحان، وليس المهم معرفة كل الأسباب، وعليهم غدا أن يتظاهروا ضد الذين اعتدوا على زملائهم ومرغوا بذلاتهم السوداء في التراب، والذين يريدون من القضاء الواقف أن يجثو على ركبتيه ويريدون منه أن يظل شيطانا أخرس لا يدافع عن قضية نبيلة أو قضية تستحق التاريخ ويستحقها التاريخ.. ولقد رأينا المفارقة الأخرى في قضية النواب الرحل، وهي قضية سياسية بامتياز، وكيف أن القضاء أصدر حكمه ضد الدولة في هذه القضية. سنصفق طبعا لأن القضاء لم يتلق وصاية الحكومة، ولا تلقى هاتفا من وزير العدل أو من الوزير الأول.. سنصفق حتى يسمع العالم أننا نصفق طويلا للقضاء الإداري في الرباط والقضاء الابتدائي في طنجة.. سنصفق، ونحن مندهشون الى كون الحكم القضائي، والذي ينتظر رد الحكومة واستئنافها، جاء غير مطاوع لما يريده الرأي العام.. وهي ليست المرة الأولى التي يغيب فيها البعد السياسي في تقدير الأحكام. قد لا يكون هناك رابط مشترك بين فرعونية شباط، واحتجاج المحامين وغضبهم على قاضي التحقيق، وبين الحكم الإداري والابتدائي لفائدة الرحل من السياسيين. لكن المثير فعلا هو أن نجد البلاد بين قبضة وقبضة، إما قبضة الشك والاستغراب، وإما قبضة الاحتجاج والاشتيباط العظيم..! لقد وضع ملك البلاد إصلاح القضاء في صلب الأجندة الوطنية للسنتين الأخيرتين، وانطلقت، بمبادرة من وزير العدل عبد الواحد الراضي، مشاورات هي الأولى من نوعها في تاريخ البلاد، من أجل إصلاح القضاء، واجتمعت عشر جمعيات حقوقية على كلمة سواء من أجل الإصلاح، وفي هذا الوقت الذي ينتظر المغاربة جميعا ما ستسفر عنه حيوية الإصلاح وديناميكيته.. يراد له أن يبدو في وضع مهلهل، وضع الشفقة ووضع المسكنة. إن السؤال المروع ليس هو: هل لنا الحق في اليأس، بل: ما هو «الميساج» الذي يراد لنا أن نفهمه، في الوقت الذي لم يعد الحنين إلى وزارة الداخلية لربع قرن مضى عقدة أو مبعثا للخجل والعار..؟ هناك اليوم صراع، خفي تارة، وواضح تارة أخرى، بين من يريد للبلاد أن تتقدم إلى الأمام، ومن يريدها أن تظل سجينة مخاوفها، عبدة للشياطين الخفية والسرية وللمصالح الأنانية، وهو صراع يبدو القضاء ساحة له، في الوقت الذي لم يعد فيه أحد يشك في الرغبة الأكيدة للدولة، بكل مستويات مسؤولياتها في إصلاح هذا المرفق الوطني الهام.. إن الذي يمكنه أن يشك اليوم هو المواطن البسيط الذي يرى اليوم بعينه كيف يهان القضاء، بالواضح وبالمرموز، ويرى كيف أن اليأس يمكنه أن يكون في قلب الرجاء الأخير. ليس صدفة أن يكون استهداف القرارات التي طالبت بها القوى الحية في البلاد، من حيث تخليق الانتخابات ورد الاعتبار لها وللسياسة في الوقت الذي يتعرض فيه القضاء إلى سهام متعددة.. وفي الوقت الذي تطفو فيه ممارسات لا تليق به بتاتا.. لقد اعتدنا على القول مع مونتيسكيو أن «أخطر اللحظات بالنسبة للحكم هي لحظة التغيير»، لأن فيها الماضي لا يكون قد مات تماما، ولا المستقبل قد وصل، ويكون الحاضر ساحة للاحتمال وللتردد، كما يكون ساحة للعفاريت القديمة، وهي العفاريت التي تحلم دوما بالماضي. فليس هناك عفريت يمكنه أن يحلم بالمستقبل، أو يحلم بالقضاء النزيه المستقل.. العفاريت لا تسكن في التفاصيل فقط، بل قد تسكن قاعة المحاكم أو قاعات التحقيق..