في مقالتين سابقتين «مدن متحولة وفتوات سياسية جامدة» و«مدننا بين التمدد و التمدن» حاولنا ملامسة بعض التطورات السياسية والسوسيولوجية التي بات يفرزها التطور الحضري في بلادنا. وفي مقالة اليوم فإننا سنركز الاهتمام على اصناف النخبة الحضرية الجديدة التي بات يفرزها ذات التطور. والتي بقدر ما تسائل العديد من مسلماتنا وانماط تفكيرنا حول الشأن العام، فإنها تطرح أكثر من تساؤل عن مسؤوليات الفاعلين السياسيين انطلاقا من أن تجديد الممارسة السياسية لا يمكن ان ينفصل اليوم عن التفكير في قضايا المدن واشكال تسيير المدن ونوعية السلط المنبثقة داخلها. I - نخبة بالصدفة لازلت أذكر كيف حدثني السيد «ل» عن الظروف والملابسات التي قادته للانخراط في العمل السياسي وكيف اصبح نائبا برلمانيا ومسؤولا جماعيا. «ل» هذا ليس شخصية روائية من صنع خيال كاتب أو مؤلف، بل هو شخص حقيقي من دم ولحم. لم أكن أعرف عنه سوى كونه احد اثرياء البلد الجدد الذين اكتشفوا فجأة مجال العمل السياسي فاقتحموه اقتحاما واحدثوا فيه ضجيجا مدويا وصخبا كبيرا، بدون تدريبات مسبقة، بدون مقدمات، وبدون خجل أو وجل. جلسنا نتجاذب اطراف الحديث في مقصورة القطار المتوجه من فاس الى الرباط ذات صباح من احد ايام ابريل الربيعية. احسست برغبة تملكته في أن يحكي لي عن مشواره السياسي القصير وعن سبب - او اسباب - انخراطه في العمل النيابي والتمثيلي المحلي في سن جد متأخرة بمقياس الزمن الذي تأخذه التنشئة السياسية العادية (كان الرجل يناهز الستين من العمر في ذلك الوقت من سنة 2003) - مالي أنا ومال أمور السياسة؟ قالها بنوع من الصدق وهو يلوح بيده اليمني في اشارة للاستغراب. أنا رجل تجارة واعمال، صنعت شخصيتي عبر مساراتها الوعرة. كان يمكن أن لا ألج عالم السياسة على الإطلاق لولا تلك المصادفة التعيسة خلال ذلك اليوم الذي قادتني فيه خطابي الى مكتب السيد «ع»رئيس المجلس البلدي. ومضى الرجل يوضح: كنت قد ألححت على طلب اعتبرته عاديا واعتبره السيد الرئيس غير قانوني.كان الامر يتعلق بطلب اعتبره هو تطاولا على الاملاك العامة وحسبته انا ضرورة من ضرورات التعمير!! احتدت اللهجة بين طالب الرخصة والرافض لتقديمها. طلب السيد ع، رئيس الجماعة من السيد ل مغادرة المكتب متفوها - حسب الراوي - بكلام حاد وجارح في حقه، و قبل ان يخرج ل من مكتب الرئيس اقسم باغلظ الايمان انه داخل الى عالم السياسة وانه سيريه من الامور امرها خلال الانتخابات المقبلة ايا كانت الدائرة التي سيحل بها كمرشح. اقسم الرجل أنه سيدخل غمار الانتخابات بهدف رئيسي هو «إسقاط» ع ولو كلفه الامر نصف ثروته - حقق الرجل وعده - أو وعيده على الاصح - فأصبح مستشارا جماعيا و نائبا برلمانيا ومستشارا بإحدى غرف التجارة والصناعة والخدمات، مراكما بذلك، وفي ظرف وجيز، الألقاب والنياشين الانتخابوية، واصبح بذلك احد عناصر النخبة الحضرية الجديدة - ل هذا يتقن اليوم لعبة اصطناع الوقار، وقار الهوية الجديدة، يتأبط الجرائد الناطقة بالعربية والفرنسية، وحتى الانجليزية يحرص دائما على حمل الحقيبة الديبلوماسية السوداء، التي لا تفتح الا بكود خاص. هو ذا نموذج من نخبة الصدفة - لا اعرف كم هو عددهم بالضبط، ولكن يقينا أن عددهم بدون شك ارتفع خلال العقدين الاخيرين حتى اصبح جزءا عاديا ومألوفا من تشكيلة النخبة الحضرية. II - نخبة بانقلاب الموازين السيد «ب» نموذج آخر صعد سلاليم المسؤولية الجماعية بسرعة مذهلة في مدينة عريقة متوسطة الحجم، كان الرجل يتنقل لحساب مقاولة صغيرة في ملكية السيد«ص».وص هذا كان رجلا مدينيا باوصاف الستينات. رجل يتغذى بالكسكس كل يوم جمعة. يوزع الصدقات بدون رياء او بهرجة ودون انتظار جزاء آخر غير جزاء المحسنين عند الله. يلبس جلبابه الابيض ويذهب للصلاة مع أمة المسلمين. يسكن باحد الازقة الضيقة بتلك المدينة التاريخية، لا يعزله عن فقرائّها عازل جغرافي او سيكولوجي. ص، هذا رجل مديني، لم يكن يعرف ان الباحث الفرنسي ريمي لوفو او الامريكي واتربوري قد يصنفانه ضمن فئة الاعيان، ولم يكن يهمه بالتأكيد ان يصنف كذلك. لا علاقة مؤسساتية تربطه بالدولة غير ما يؤديه من ضرائب وما يحضره من احتفالات رسمية يستدعى لها من حين لآخر. لنعد إلى حكاية مشوار السيد «ب» هذا الرجل تقدم للانتخابات الجماعية، صعد سلاليم المسؤولية بسرعة فائقة. اصبح في غضون بضع سنوات المسؤول الاول عن قسم التصميم، يوزع رخص البناء ويفاوض في موضوع التجزئات السكنية الكبرى يصبح الرجل في تلك المدينة اشهر من نار على علم. تتغير احوال الدنيا، ويستفيد السيد «ب» من حراك اجتماعي (باللغة السوسيولوجية) حراك لم يتأت من استثمار منتج او تراكم تصنعه روح المقاولة، بل بالموقع الانتخابي. في احدى الايام يأتي السيد ص المديني القديم الى مقر البلدية لطلب رخصة اصلاح صغيرة (v2) الى مقر البلدية، يسأل بعفوية من المصلحة المكلفة بهذا النوع من التراخيص، يدله احد الموظفين على مكتب المصلحة، يتقدم السيد ص صوب المكتب وقد اثقلت السنون خطاه. يفاجأ بالسيد ب يفتح باب المكتب: اهلا وسهلا الحاج، يوم كبير هذا، بعد الترحاب يجلسه بلياقة على كرسي وثير،يطلب له كأس شاي، يستأذنه في ان يتغيب لبضع دقائق يعود بعدها إليه لتلبية طلبه. بقية القصة تقول ان السيد ب، مأخوذا ومزهوا بهذا الحدث الذي يذكره بموقعه الاجتماعي الجديد. أخذ سماعة التلفون من مكتب مجاور وهتف الى زوجته يخبرها بأان الحاج ص بذاته وصفاته جاء يطلب منه المساعدة من اجل الحصول على رخصة اصلاح. هو ذا نموذج من نخبة انقلاب الموازين. لا نعرف كم هو عددهم الآن على وجه التحديد، و لكن الذي يعرفه الناس بالتأكيد انهم حققوا قفزات كبرى وترقية اجتماعية مثيرة للانتباه من خلال العمل البلدي خلال سنوات المال وانقلاب القيم والموازين. والذي يمكن الجزم به بالنسبة للملاحظ الاجتماعي أن العديد من هؤلاء يصلح فعلا أن يكون شخوصا في تركيب روائي. وإذا كان النموذج الأول قد انتقل من عالم الاعمال إلى عالم السياسة والمجالس المنتخبة بمحض الصدفة، حيث أصبح بعد بضع سنوات يعض على المقاعد بالنواجد، فإن الصنف الثاني انتقل من الكفاف الى البحبوحة بفضل السياسة والانتخابات، وجعل من إدارة الشأن العام قطاعا اقتصاديا مهيكلا يدر الارباح والفوائد مثله مثل أي قطاع تجاري او مالي. لايتعلق الامر بطبقة اجتماعية، ولا حتى بفئة اجتماعية جديدة، هم في الغالب الاعم أشخاص من نوع خاص. يمكن ان نطلق عليهم مصطلح الانسان البلدي، مفاوضون بارعون، يحفظون عن ظهر قلب بعض مفردات القانون الاداري وقوانين التعمير، معظم وقتهم مخصص للجماعة التي أصبحت دارهم الثانية ومهنتهم الحقيقية ، يعطون الانطباع الى أنهم شديدو الارتباط بالناس، شيدوا الاستماع الى الشكاوي والتظلمات، لايحركهم شيء سوى الحس المدني. II - نخبة بالتصويت العقابي: - هذا النوع من النخبة الحضرية برز بقوة على إثر استحقاق 1992 الجماعي، لقد أصيبت الطبقة السياسية ومعها كل الملاحظين السياسيين بالذهول وقتها وهي ترى كيف تغيرت المواصفات رأسا على عقب بخصوص بروفيل المنتخب الجماعي الذي أفرزته صناديق الاقتراع وقتها. لقد تعطلت أدوات التحليل عند الجميع ولف الغموض كل المفاهيم المكرسة امام ذلك المشهد الغرائبي والكافكاوي الذي تحول فيه «ابن الدرب» من مفهوم سوسيولوجي، يرمز الى نوع من الحميمية بين الساكنة وأحيائها، الى مفهوم يؤشر على بروز فصل جديد انضاف فجأة الى عناصر النخبة الحضرية، وهو ما لم يتوقعه محلل او مستشرف للعمل الجماعي، هذا الصنف الجديد من النخبة جاء نتيجة للتصويت العقابي الذي يسكله الناخب المغربي والذي كان عنوان مرحلة بكاملها لازالت تداعياتها مستمرة لحد الآن. وتحضرني بهذا الخصوص واقعتان شديدتي الترميز الى ما أريد قوله بخصوص هذا الصنف من النخبة، واقعتان كنت شاهدا عليهما في مدينتين مختلفتين، فاس وطنجة. في مدينة فاس، جلسنا ننتظر في منزل الاستاذ عبد الهادي الاندلسي (شافاه الله) وقد كان الرجل وقتها عميد الاستقلاليين بفاس، جلسنا ننتظر عشية يوم الاقتراع للانتخابات الجماعية لسنة 1992 الاعلان عن النتائج. منزل الاستاذ الاندلسي هو المكان الذي كانت اللجنة المختلطة بين الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال قد اختارته لعقد اجتماعاتها لتدارس موضوع الترشيح المشترك للجماعات، الذي كان موضوعا على الاجندة السياسية للحزبين وقتها. وحينما تعذر الوصول الى صيغة المرشح المشترك للجماعة، كنا مع ذلك، قد وصلنا الى اتفاق يقضي بالتعامل على أساس ميثاق شرف يحدد قواعد التعامل بين الحزبين والتنسيق المشترك في المسؤوليات التسييرية بعد إعلان النتائج. كنا قد وصلنا الى بيت الاستاذ عبد الهادي الاندلسي بدقائق قبل وصوله هو . دخل الرجل وقد تغيرت ملامح وجهه . كانت أولى النتائج قد بدأت تظهر. وبعد السلام مباشرة، خاطبنا بصوت قوي النبرات أطلت منه علامات الحسرة والاسى قائلا (لازلت أذكر العبارة بالتدقيق)، ايها الاخوة الاعزاء، لقد تيقنت اليوم من شيء واحد، حرام ان يتساوى العالم والجاهل باسم الديموقراطية. بعد الضحكات التي أثارها فينا هذا التركيب اللغوي المفارق في كلام الاستاذ الاندلسي،عرفنا الدافع الى تلك العبارة : فلقد كان الاستاذ عبد الهادي الاندلسي قد عرف لتوه انه فشل في الفوز بالدائرة الانتخابية التي تقدم بها وأن الفائز كان أحد الاشخاص المغمورين من أبناء الدرب. وقتها ذكرتني عبارة الاستاذ عبد الهادي بنجلون بعبارة مدام دوستايل في أعقاب الثورة الفرنسية حينما صاحت غاضبة: أيتها الحرية كم من الجرائم ترتكب باسمك. - لم يكن الاستاذ عبد الهادي الاندلسي وقتها يعرف ان تلك النتيجة كانت تعبيرا عن تصويت عقابي ينبىء - او ينذر - بوصول صنف جديد من النخبة الحضرية ستملأ ردهات البلديات خلال حقبة بكاملها استمرت الى حدود سنة 2003. - الواقعة الثانية التي كنت شاهدا عليها والشديدة الترميز الاخرى الى كيفية انبثاق نخبة جديدة بالتصويت العقابي، كانت بمدينة طنجة، وتحديدا بحي السواني. جلست أتجاذب أطراف الحديث مع أحد الاقارب، بخصوص نتائج انتخابات 1992 الجماعية. الرجل خياط جلابيب تقليدية يهتم بالسياسة على طريقته، في السبعين من عمره آنذاك. مواظب على سماع الاخبار وعلى تحليلها في فترات الراحة. سألته: قل لي من فاز عندكم في هذه الدائرة، رد بتلقائية، كان الامر سهلا للغاية عندنا، لقد اجتمعنا نحن بعض السكان النافذين في الحي بعد ان بدأت تظهر اسماء المرشحين. لقد غاضنا عودة جل الاسماء السياسية السابقة، وغاضنا عودة جل المستفيدين من مواقع التسيير السابقة. فذهبنا عند السيد.م، وهو عامل في الفرن التقليدي (الفران) بالحي، بسيط وخدوم. وقررنا أن ندفعه الى الترشيح بأي لون يختاره على اساس ان نقوم نحن بتمويل حملته الانتخابية، وذلك على خلفية القناعة بأنه مادام ان كل الداخلين الى هذا الميدان يستفيدون من موقعهم الانتخابي ويحققون ترقيا ماديا، فالاولى ان يستفيد من هم حقا في الحاجة.. كان الرجل يتكلم بشكل تلقائي وكأنه يتحدث عن بديهية من البديهيات.. وكان كلامه دليلا على أن الفجوة وأزمة الثقة بين الطبقة السياسية والناخبين قد وصلت الى قمتها، وأن التصويت العقابي هو بصدد انتاج نخبة حضرية جديدة، بمواصفات وبروفيل جديدين. عرفت فيما بعد، استنادا الى ما قاله لي ذلك القريب، ان الشاب المشتغل بالفرن نجح في دائرته، وأنه قام بتصريف موقعه لدى احد أكابر الانتخابات في طنجة مقابل امتيازات اخرجته من موقع اجتماعي الى آخر اريح وايسر. هو ذا نموذج ضمن صنف النخبة التي أنتجها التصويت العقابي. يتبع