ما الداعي إلى فتح نقاش جديد حول المسألة القروية بالمغرب؟ هل من مبررات موضوعية لفتح هذا النقاش من داخل مطبخ السوسيولوجيا؟ و هل من إضافات نوعية يحتملها هذا النقاش المفتوح حول مواضيع أشبعت درسا و تحليلا من قبل باحثين من قارات علمية و سجلات ثقافية و زمنية مختلفة؟ فما أنتج حول العالم القروي، في السوسيولوجيا الكولونيالية و كذا في المتن السوسيولوجي لما بعد الاستقلال عصي على الجرد بدقة متناهية، فما الداعي مرة أخرى إلى التساؤل مجددا حول المسألة القروية؟ بهذه التساؤلات الشقية استهل القاص و الباحث السوسيولوجي مؤلفه الجديد الموسوم ب تحولات المغرب القروي و أسئلة التنمية المؤجلة، و الذي قدم له عالم الاجتماع المغربي الدكتور مصطفى محسن، و قد جاء هذا العمل الصادر عن دفاتر الحرف و السؤال بسلا، في نحو 136 صفحة من القطع المتوسط، متوزعا على سبعة فصول تهم أسئلة المجتمع القروي المغربي من مداخل متعددة، تنفتح على الملكية العقارية و أنماط استغلال الأرض و الحضور المخزني و مؤسسة اجماعة و الأعيان و التحولات العائلية و المجتمع الواحي ثم زمن الهجرة الذي يؤشر على موت القروي و ميلاد الزماكري. يقول عبد الرحيم العطري مفكرا في العطب القروي: سؤال التنمية القروية مغربيا يحتمل أكثر من طريق و أكثر من مقاربة، لكنه، يجد ترجمته الواقعية دوما في الحلول الاقتصادية التي ترمي إلى «تمدين القرية و ترييف المدن»، بحيث يتم فهم التنمية القروية من طرف الفاعل السياسي و داعية التقنية على أنها استنبات لأعمدة الكهرباء و شق للطرق الثانوية و حفر للآبار، و في أفضل الأحوال، خلق لمناصب شغل مؤقتة في إطار الإنعاش الوطني أو تخفيض في أثمنة البذور و الحبوب لحظة الجفاف. لكن ها العديد من القرى المغربية صارت شبيهة بالمدن، فلم يصلها التيار الكهربائي فقط، بل وصلها حتى صبيب الإنترنيت، و مع ذلك فقد ظلت منتجة للهجرة نحو المدن و مقبرة المتوسط أو الضفة الأخرى في غير الحظوظ العاثرة، كما استمرت في احتلال مراتب مخجلة على مستوى مؤشرات التنمية البشرية، فما سر العطب القروي بالمغرب؟ و يضيف موضحا بأنه السؤال/الخيط الناظم لهذه الدراسات التي يظل قاسمها المشترك هو الانهجاس بالمسألة القروية و أعطاب تنميتها، فهي دراسات متفرقة في الزمن و المجال، يوحدها البحث عن جواب شاف للعطب المغربي، من مقترب القرية بدل المدينة، و انطلاقا بالضبط من تمثل خاص للسؤال السوسيولوجي كفعل شقي و مشاغب لا يطمئن إلى الجاهز و اليقيني، و ينزع بالضرورة إلى تجريب مسارات عدة من التحليل و التفكيك، أملا في الفهم و التفهم. و في سياق تقديمه لهذا الكتاب آثر عالم الاجتماع المغربي مصطفى محسن أن يستثمر مناسبة التقديم للتعريف بمشروعه السوسيولوجي و طرح القضايا و الرهانات السوسيولوجية الكبرى، قائلا بأن عبد الرحيم العطري لم يكتف، في البحث و التحليل و الاستنتاج، بمجرد عرض معلوماتي للمعطيات و الأرقام و المضامين، بل اجتهد في تقديمها عبر منظور تساؤلي نقدي حي، واع بديناميكية المجتمع المبحوث و بديناميكية و نسبية ما ينتج حوله من «معرفة علمية». إضافة إلى ما اعتمده في تحرير هذه الدراسات من أسلوب في الكتابة، متسم بقدر لا يستهان به من السلاسة و الجاذبية و الوضوح، و دون انزياحات دلالية مؤثرة. و يواصل الدكتور مصطفى محسن موضحا بأن كل هذه المقومات و المميزات الإيجابية تمنح، في تقديرنا، لعمل الأستاذ العطري، مواصفات و إمكانات الانفتاح على قضايا و مجالات فكرية و سوسيولوجية متنوعة، كما تؤهله لامتلاك نوع من الاقتدار على مخاطبة شرائح واسعة و متنوعة من القراء و المهتمين... و يضيف محسن مبرزا بأن كتاب العطري لا يغطي القضايا و الإشكالات و المجالات الواسعة كلها، و لا يدعي ذلك، و لكنه يطمح، بكل تواضع علمي، إلى أن يجعل من مضامين عمله هذا نافذة معرفية مفتوحة يطل منها القارئ الباحث أو المهتم على بعض أهم مشكلات و أزمات و أوضاع العالم القروي، بله المجتمع المغربي بشكل أعم. و هنا تكمن، في تقديرنا، قيمة و راهنية و فائدة هذا الكتاب معرفيا و اجتماعيا، الأمر الذي يجعل منه إثراء للبحث السوسيولوجي، بل و للمكتبة المغربية و العربية عامة. لذا فنحن نأمل أن يكون عامل تحفيز على إنجازات أخرى قيمة، و لا سيما من طرف طاقات شبابية باحثة، نرجو أن تكون واعدة بالكثير من العمل الجاد و العطاء النوعي و الاجتهاد الصادق، كما هو شأن هذا المجهود السوسيولوجي المفيد. فالعطري يثير الانتباه إلى أن ما جاء في مؤلفه هذا هو مجرد دراسات على سبيل المثال، لا الحصر، نقرأ فيها و من خلالها بعضا أو كلا من ديناميات مجتمع قروي يعرف تحولات عميقة في مستوى الأدوار و العلاقات و القيم و الممارسات، و هو ما قد يقود إلى اكتشاف عسر التنمية المؤجلة، و اختلال «القروي» الذي يمتد بتأثيره إلى مجموع النسق المجتمعي، فهي دراسات لم تكن وفية لتقنية منهجية واحدة، فمن أجل الوصول إلى المعطيات، فقد تم اختبار مجموعة من التقنيات الكيفية و الكمية، من قبيل المقابلة و الاستمارة و الملاحظة و منهج السيرة. لهذا يجدد التأكيد مرة أخرى على أن هذه المساهمة المتواضعة، تأتي على درب إثراء النقاش السوسيولوجي حول « القروي» بالمغرب، و لا يمكن أن تدعي لأسئلتها و إجاباتها امتلاك حقيقة العالم القروي، فثمة بياضات تبصمها، على اعتبار أن المجتمع القروي بالمغرب لا يتحدد بالضرورة في موطن هذه الدراسات المتفرقة، و لا تتأطر أسئلته ضمن الحدود المعرفية لهذه المساهمة، فثمة مجالات قروية أخرى لم يتأت درسها، و هو ما نأمل تحققه في مشروع علمي آت. يذكر أن الباحث عبد الرحيم العطري سبق و أن صدرت له مجموعة من المؤلفات السوسيولوجية التي تتوزع على: دفاعا عن السوسيولوجيا، سوسيولوجيا الشباب المغربي، المؤسسة العقابية بالمغرب، صناعة النخبة بالمغرب،الحركات الاحتجاجية بالمغرب، فضلا عن مصنفات أدبية أخرى كالليل العاري و القارة السابعة و آل الحرف و السؤال.